|
آراء
بحيث يبادر إلى إغلاق الإذاعة والتلفزيون (باعتبار أن إغلاق النوافذ لم يعد مجدياً لمحبي الهدوء والتأمل ,واللامبالاة , بعد أن فقدت النوافذ ,هي الأخرى وظيفتها وقدرتها على صد الضجيج, وغرام البشر بالإزعاج) ويعطي لنفسه فرصة للتفكير , متذوقاً هذه الرفاهية المفتقدة لدى الكثيرين ( أعني التفكير حتى لايساء فهمي) و منها ذاك السؤال الذي نسمعه ميكانيكياً على مدار الساعة: كيف الحال? ونجيب عليه بالآلية نفسها ودون تفكير ? ماشي الحال, وقد حصل أن تلقيت هذا السؤال , بكل جدية من أحد الزملاء وهو يبادلني التحية فأجبت : شو بيعرفني كيف حالي ? فأغرق في الضحك معتبراً أن إجابتي من غرائب العصر! وأي عصر هذا الذي يهز وعينا , وينخر فيه حتى أصبح مثل خروم المنخل , حتى لانستعير تشبيه الجبنة السويسرية ونعتدي على لغة صناع السياسة في العالم , والغيارى على إقامة الدولة الفلسطينية ! أنا من الموظفين الذين يتقاضون أعلى أجر في هذا الوطن ( رغم الضرائب التي تقتطع منه دون عناء ) بحيث لايؤرقني الأسبوعان الأخيران من الشهر ولا أتحايل على المرض حتى لاأدفع عيادة الطبيب وثمن الدواء ولا أغص وأصاب بالصداع حين أمضي بين موسم وآخر لشراء تلة من الكتب غيرالمدعومة لايجف ريقي حين تعترضني مناسبة أضطر فيها لشراء هدية لأصحابها , لاأرفع باب المظاهر لأتواجد في المطاعم يوماً في الأسبوع , أوأطارد التنزيلات لأشتري مايلزمني ,ومالايلزمني ,ويبقى معي غالباً مئات الليرات للمفاجآت غير المحسوبة ( قلت مئات لأبقى صادقة) , كل هذا وأنسى الشكر والحمد , ومن لايجوع ولايستدين في هذا الزمان عليه أن يؤدي صلاة شكر وحمد للخالق الكريم كل يوم , أما أنا فمقصرة , ليس لأنني كافرة بالنعمة , أو جاحدة , أو ناكرة للجميل , بل لأنني ورثت وعياً مرهقاً , فحيثما تلفتُّ ثمة جائع أو عاطل عن العمل , أو محتاج ومسكون برعب الليل القادم وليس الغد كما تحفظ حكمة أيام زمان ! كم عدد الجائعين في العالم? صندوق النقد الدولي يحصيهم وهو واحدمن حراب التجويع على هذه الأرض ! يفرض شروطه على الدول التي منها تنهب الشركات متعددة الجنسيات ( مؤسسة الصندوق) القمح والذرة والأرز والقهوة والشاي , والغاز والذهب والبترول ,وتوزع بمشيئتها مساحات الأرض التي يجب زراعتها بأنواع محددة من الخضار والفواكه ( كحال الشقيقة مصر بعد كامب ديفيد) وتحرم الجائعين الذرة وليس الذرة فحسب , لتجعلها وقوداً نظيفاً لسياراتها وآلاتها ! المعنى ? عالم تكنولوجي مهيمن برؤوس أموال متوحشة , يقتل القتيل ويخرج في جنازته دون ذرف دمعة واحدة على مقابره الجماعية !! صباح مساء , تتسابق أشرطة الفضائيات الدوارة , على إتحافنا بأخبار هبوط الدولار ,وصعود سعر برميل البترول وأونصة الذهب ,الحمد للّه , ليس البترول شراب أطفالنا قبل ذهابهم إلى المدارس , ولا الذهب من مقتنياتنا الأثيرة والضرورية ) لكن كل إشارة إلى هذه الأسعار باتت تثير قلق أبسط الناس , لأنهم باتوا يحدسون أن بشارة العولمة خنقتهم بالفعل في قريتها الصغيرة , ثم أبعدتهم خارج المركز الغني , وأن جنون هذ ه الأسعار في العالم الرأسمالي المتوحش , يضربهم بذيله الجبار ويضمهم ( وهو يوسع فئاتهم كل يوم) إلى جموع المحرومين الذين لاتفزعهم الحاجة , بمقدار مايفزعهم جوع أبنائهم وتقلص فرص عيشهم الإنساني الكريم.... يدخل إلى بيتي النجار والدهان ومنجد الستائر ومصلح التمديدات وأدخل بدوري ,بشكل متكرر , سيارات الأجرة ( بعد حرماننا من مواصلات العمل) كما أدخل البقاليات ودكاكين الخضرة ( بله التوقف على العربات الجوالة) والحديث واحد: الغلاء المتصاعد ,الذي لايعلمه إلا اللّه أين شواطئه , وموانئه الأخيرة وأدهش لنشاط العقل الرياضي المفاجئ في مجتمعنا ( نحن محبون للكليات النظرية ) ومقارنة أسعار اليوم بالأمس وليس بعقود زمن آفل: خبز النخالة كرسي القش , ماعون الورق, قلم الرصاص , قارورة الخل, قارورة الزيت, قطعة الصابون, المسمار, قمع البوظة , ! ماأسرع ماشطح في خيالي إلى الحاجات غير الضرورية, وخيالي نفسه لم يعد يسعفني لوضع نفسي في شرنقة فردية لأستمتع بالشبع والاكتفاء , وأفكر بقدوم الأحفاد وفرحة الدعوات المتواضعة ( جوع وغلاء ومذابح لأهلي وراء حدود وطني العزيز ,وهو لوكست يومي لأطفال إخوتي , وقعقعة تهديدات وضغوط من القوي والعميل ) والطريف أنني مازلت أسمع هذا السؤال : كيف الحال? وعلى ماشي الحال التي تتبعها بشكل آلي أعود صاغرة إلى التلفزيون بعد انكفاء الإذاعات إلى فن المونولوج خالي البال , فأرى خبراً يثير فيّ فرحاً لاتفسير له: بيع عقد من تسعة حبال لؤلؤية ( قدم هدية لفنانة عربية كبيرة في السبعينات ) بمبلغ مليون ونصف مليون دولار , وثمنه الأصلي مئة وخمسون ألف دولار ( مع فرق السعر بين الحاضر والماضي) , والشاري رجل أعمال عربي لم يفصح عن اسمه , أدير ظهري للأخبار التي استأنفت إحصاء ضحايا المذابح بعد خبر اللؤلؤ ,وأقف على نافذة مطبخ بيتي في الحي العشوائي الذي أحبه وأحب أهله من قلبي , عليّ أحظى بوجه من وجوه جيراني لأسأله : كيف الحال ?? |
|