تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مضامين التشريع المائي الجديد على محك التطبيق!.. التشدد في منع الحفر العشوائي للآبار ... والري الحديث ضرورة

مراسلون وتحقيقات
الأحد 13/11/2005م
مروان دراج

خلال عقد التسعينات من القرن الماضي ولغاية سنوات قريبة,

لم تكن معدلات الهطل المطري في القطر مرضية, وهي كانت أقل بكثير من الحاجات الفعلية التي تستلزمها الاستخدامات الزراعية والصناعية والمشروعات التنموية, فضلاً عن الاستخدامات المنزلية, وفي مواجهة مثل هذه الحقيقة التي أرّقت القائمين على صوغ السياسات الاقتصادية والتنموية,‏

لجأت الحكومة إلى كثير من الخيارات التي تندرج في إطارها العام ضمن سياسة الترشيد والتقنين التي طالت غالبية المطارح التي يمكن من خلالها التعايش مع حقيقة ما هو قائم لتكريس مفهوم التكافؤ بين ما هو متوفر ومتاح من إمكانات وقدرات مائية وبين الحاجات اليومية للاستخدامات المتعددة, وكان من اللافت أن ما هو متاح فعلياً بشأن آليات ضبط ترشيد استخدام المياه تمثل من خلال التقنين في استجرار مياه الشرب, إذ إن المؤسسات المعنية في هذا الجانب تمتلك القدرات والإمكانات لضخ المياه في أوقات محددة من ساعات الليل أو النهار.‏

ومثل هذا الواقع ترك ارباكاً ملحوظاً من جانب المستهلكين, خاصة وأن بعض المدن والمناطق تباينت فيها معدلات الضخ وإلى حدود صارخة, فبعض المدن وبسبب التراجع الكبير في معدلات الهطل المطري لم يكن نصيبها من الضخ في بعض الشهور غير أكثر من ساعتين أو ثلاث يومياً, وعلى وجه التحديد في فصول الصيف الحارة. إلى جانب بعض برامج الترشيد والتقنين التي طالت المشروعات الزراعية والصناعية والتنموية.‏

في مواجهة مثل هذه الحقائق لم يكن أمام الحكومة من سبيل سوى الالتفات إلى صوغ سياسة مائية ممثلة بإصدار تشريع أطلق عليه بالتشريع المائي والذي صدر قبل أقل من شهرين على كتابة هذه السطور. وكان البعض من الذين يتابعون هذا الشأن في المنابر الإعلامية أو لجهة الرأي العام قد أبدى بعض الاستغراب بشأن إصدار هذا التشريع, انطلاقاً من كون معدلات الهطول المطري قد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة, ما يعني أن إمكانية توفير الحاجات الفعلية باتت أكثر من متاحة, غير أن مثل هذا الاستغراب يفترض أن يتبدد, ذلك أن هذه الرؤية قاصرة ولاتأخذ بعين الاعتبار ما يعنيه مفهوم الدورات المناخية وإمكانية مواجهة ذات الظروف المائية التي واجهها القطر على مدار سنوات متعاقبة. ما يعني أن صدور هذا التشريع المائي كان بمثابة ضرورة, وهو وإن صدر في الأمس القريب, فإن حضوره الحقيقي كان يفترض منذ زمن بعيد , وقدجاء متأخراً بعض الشيء, غير أن الحضور المتأخر أفضل من عدمه. ذلك أن هذا التشريع وفي مضامينه المختلفة يمثل حاجة فعلية لجهة تحقيق التوازن المائي وتنظيم عمليات الاستجرار التي اتسمت ولعقود طويلة بالعشوائية والابتعاد عن كل ماله علاقة بالاستجرار المنطقي والسليم, فالمظاهر التي كانت شبه عادية ومألوفة أكثر مما تعد أو تحصى, فعلى سبيل المثال لا الحصر كان البعض وفي استخداماته المنزلية يلجأ إلى فتح صنابير المياه لمدة زمنية طويلة كي يصله الماء بارداً ومن أجل كوب أو اثنين من مياه الشرب, مع أن هذا البعض يعلم علم اليقين, أن بمقدوره اللجوء إلى تعبئة بعض القوارير كي يحتفظ بها باردة في (الثلاجة) وتبقى صالحة للاستعمال لأيام وأسابيع وإلى شهور أيضاً في حال كانت عملية الحفظ صحيحة وسليمة. وأيضاً لم تكن ربة المنزل تتوانى عن استخدام هذه المياه وبكميات تصل إلى عشرات الأضعاف عن حقيقة الحاجة الفعلية خلال عمليات تنظيف المنزل. ومظاهر الاستجرار تطول أيضاً المزارع والحدائق والمسابح وحتى بعض المؤسسات الرسمية وسواها من الاستخدامات غير العلمية في المشروعات الزراعية والصناعية.‏

ونقول اليوم إن التشريع المائي يأتي لينظم عمليات الاستجرار والأمر هنا لا يتعلق فقط فيما خص الاستخدامات التي أتينا على ذكرها, وإنما هي تحاول معالجة مفهوم الاستجرار العشوائي بكافة أشكاله وطرقه المتعددة. وربما من يعود إلى مضامين هذا التشريع سوف يلحظ ومن غير عناء, كيف أنه أحاط في معظم القضايا المتعلقة باستخدامات المياه, حتى إن بعض المشروعات الصناعية والزراعية التي بحاجة إلى استخدامات كبيرة للمياه, لم يتوان التشريع عن تحديد أمكنة هذه المشاريع انطلاقاً من إمكان توفير هذه الكميات في بعض المحافظات التي تتوفر فيها كميات أعلى في موسم الهطول المطري, ومثل هذه السياسة في استخدام المياه لا تسهم فقط في ترسيخ سياسات التقنين والترشيد فحسب, وإنما يتيح الفرصة أيضاً لتحقيق التوازن في عمليات التنمية الاقتصادية وغير الاقتصادية, مثلما تمنع من نزوح البعض إلى محافظات أخرى لتوفير فرص العمل, وبلغة أدق هذا الأسلوب بمقدوره أيضاً الحد من الهجرة المعاكسة بين الريف والمدينة, ذلك أن بعض المشروعات التي تحمل صفة زراعية وصناعية في آن تحين إشادتها في مناطق ريفية تتوفر فيها أولاً كميات المياه اللازمة, مثلما توفر المزيد من فرص العمل كما ذكرنا, هذا إلى جانب ما يمكن تحقيقه بشأن الجدوى الاقتصادية وتخفيض كلفة المنتج, نظراً لتوفير الكثير من النفقات التي تستلزمها عمليات النقل والتسويق وسواها من الأسباب الأخرى.‏

وإصدار التشريع المائي وتلمس أهمية لا تبتدي فقط من خلال الترشيد بشأن الاستخدام في المشاريع المختلفة, وإنما بات أكثر من ضرورة في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب واللاذقية, ففي هذه المدن التي واجهت شحاً كبيراً في سنوات ماضية, لم تكن هناك ضوابط وشروط وإجراءات تحدد آليات استجراره المياه, وفيما إذا كان هذا الاستجرار مشروعاً أم لا, وهذه الآليات العشوائىة الناجمة عن غياب الخطط والبرامج السليمة أدت مع مرور الزمن إلى حدوث هوة كبيرة بين الحاجات الفعلية لهذه المدن من المياه وبين ما هو متوفر من مخزون في باطن الأرض. حتى إن هذه الهوة التي تمثلت بدراسات وأرقام رسمية دفعت البعض إلى الاعتقاد وأن العطش قد يهدد ملايين البشر مستقبلاً إن لم تبادر الحكومة إلى صوغ سياسة وإجراءات واقعية تعالج المشكلة من كافة جوانبها وظروفها الذاتية والموضوعية, ومن هذه الأرقام التي سبق أن أتى على ذكرها الإعلام الرسمي أكثر من مرة, أن مدينة مثل دمشق يقطن في داخلها اليوم ما يزيد على (4) ملايين إنسان, ومع أن البعض يشكك في حقيقة هذا الرقم ويشير إلى أن عدد السكان يزيد على (5) ملايين, فإن الأرقام تقول: أن ما هو متوفر حالياً في باطن الأرض وذلك ضمن الرقعة الجغرافية المسماة ب(حوضة دمشق) ما هو متوفر من مياه لا يكاد يكفي لأكثر من مليون إنسان, وفيما لو صحت هذه الأرقام فذلك يعني بالضرورة أن على الجهات المعنية استخدام كل السبل والإجراءات من أجل ترجمة التشريع المائي الجديد ودون أي تساهل من جانب أي طرف,ويفترض بهذه الجهات أن لا تبدي أي تلكؤ في هذا الجانب حتى لو تضاعفت كميات الهطل المطري عن معدلاتها السنوية الفعلية. ذلك أن هذا التشدد هو بمثابة تحسب من إمكان مواجهة بعض المواسم المماثلة لسنوات الشح في الهطل المطري.‏

وحين نقول أن على الجهات المعنية ممارسة أقصى التشدد في هذا الجانب, فإننا نعني في ذلك ضرورة منع استمرار الحفر العشوائي للآبار الإرتوازية, فالأمر الذي بات شبه مألوف على مدار سنوات طويلة, أن كل شخص يشيد منزلاً, يقوم وبالتوازي مع هذا العمل في حفر بئر ارتوازي ضمن رقعة محددة من منزله, وقد لا نجافي في الحقيقة لو قلنا, إنه في كثير من مناطق السكن العشوائي التي زحفت في معظم المدن السورية, فإن البعض لم يكن يتردد عن حفر هذا البئر في منطقة محاذية من منزله بحيث يسهل على هذا البعض استجرار المياه وقت ما يشاء وفي الأساليب والطرق التي يرغب بها.‏

حقيقة إن مثل هذا الجانب, وبسبب ما يمثله من مخاطر كبيرة بشأن تحقيق التوازن المائي, فإن مجلس الشعب وقبل إقراره للتشريع المائي كان قد أشبع هذا الجانب الكثير من الجدل والنقاش, ورغم تباين المواقف والآراء لتحديد الشروط والآليات التي من شأنها ضبط حفر الآبار المخالفة, فإن الغالبية توصلت إلى قواسم مشتركة تضمن وقف هذا التعدي على المياه الجوفية, فالمادة(26) التي توقفت عند هذا الجانب أشارت وبلغة صريحة إلى جملة من الإجراءات والشروط التي يسمح من خلالها لهذا الشخص أو ذاك بحفر بئر ارتوازي والحصول على ترخيص رسمي من الجهة المعنية, بل إن السيد وزير الري ولمنع بعض التجاوزات التي يمكن أن تصدر عن هذه الجهة أو تلك, كان ومن خلال التنسيق مع لجنة صياغة التشريع قد سحب البساط من تحت الذين قد يتجاوزا التشريع, وذلك من خلال حصر منح الموافقات بالسيد وزير الري مباشرة, وبقدر ما تركت هذه النقطة بالذات بعض الانزعاج للذين اعتادوا على منح التراخيص بطرق وأساليب عشوائية وملتوية, بقدر ما تركت ارتياحاً كبيراً, من جانب الرأي العام والمستهلكين الذين كانوا وما زالوا يتطلعون إلى سياسة مائية تضمن لهم ولغيرهم تحقيق وتلبية حاجاتهم, وأعضاء مجلس الشعب كانوا قد توقفوا مطولاً عند هذا الجانب بسبب المعلومات والأرقام الرسمية التي سبق لها الإشارة ومن خلال الندوات والمنابر الإعلامية إلى ما وصلت إليه أساليب الحفر العشوائي للآبار من فوضى والابتعاد عن كل ماله علاقة بالمسؤولية والحفاظ على الصالح العام, فالأمر الذي لم يعد سراً أن تراجع منسوب المياه الجغرافية في مدينتي دمشق وريف دمشق يعود أساساً إلى هذه الآبار. فالعجز التراكمي الناجم عنها وعن تراجع كميات الهطل المطري , وصل إلى حدود (27) مليار متر مكعب, وهذا الرقم الأخير يتعذر تعويضه إلا في حال تنظيم عمليات الحفر للآبار والتي وصل عددها في محافظة واحدة مثل ريف دمشق إلى نحو (51) ألف بئر منها (7) آلاف بئر مرخص بينما الباقي مخالف,.. ومثل هذا الرقم الذي أتينا على ذكره قد يزيد أو ينقص في مدن ومحافظات أخرى.‏

وبمنأى عن الأساليب والأنماط المتعددة في الاستجرار غير المشروع لمياه الشرب أو المياه المستخدمة في المشروعات الصناعية والتنموية, فإن إمكانية الوصول إلى ترشيد حقيقي للمياه سيبقى ممثلاً في استخدام الري الحديث في الزراعة, فالأمر الذي لم يعد مجهولاً أن هذا النمط من الري والذي مازال متعثراً جداً في بلدنا, يوفر أكثر من (50) بالمئة من كميات المياه الفعلية اللازمة للزراعة, ولهذا السبب بالذات فإن التشريع المائي الجديد لن يستوي أو يستقيم إلا في حالة استنفار الجهود لتعميم تجربة الري الحديث وقيام وزارة الزراعة ببذل كل ما تمتلك من جهود لتوفير هذه التقانة من خلال تقديم مزايا وتسهيلات للأخوة الفلاحين الذين مازالوا وإلى الآن يرون أن المسؤولية في هذا الجانب تتعلق أولاً وأخيراً في قصور هذه المزايا وعدم تلبيتها لحاجاتهم الفعلية نظراً لما تكلفه هذه التقانة الجديدة من نفقات كبيرة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية