تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ذكرياتي مع الشاعر الراحل خليل حاوي

ثقافة
الأثنين 3/11/2008
الغادر الذي شنته إسرائيل على لبنان عام1982 بثت وكالات الأنباء خبراً صغيراً مفاده أن الشاعر العربي اللبناني خليل حاوي, قد وجد مقتولاً في منزله ببيروت.

قرأت النبأ الموجز فصعقني وهزني هزاً عميقاً كأن مساً كهربائياً سرى في أوصالي, وأرعش كياني واستسلمت ذاكرتي, بعد هدأة الصدمة ووقع المفاجأة , لحالة من الشرود الساهم الحزين والتأمل الراعف بالفجيعة, ومن خلال رقاقاتها المتكدسة في قعر العقل, وما تتواتر به من مشاهد ومواقف, رحت أسترسل مع الماضي- وهو حضن للسلوى أو البلوى- وأقلب صفحاته وأمرر عينيّ على سطوره وأنفض عنه رماد الأيام وغبار السنين وأستحضره ماثلاً شاخصاً أمام ناظري على شكل صور خيالية متلاحقة حية كأن أحداثها تحدث معي الآن وتعيدني إلى الوراء أعواماً داثرة وأحوالاً حائلة تترع روحي بالشجن والألم والمرارة على رحيل أحد أكبر شعراء الحداثة العربية وواحد من أهم رموز بدايات مخاضها وعلم من أبرز أعلام القصيدة القومية الجديدة.‏

-2-‏

في يفاعتي الزمنية وشبابي الأدبي شغلني رواد الشعر العربي الحديث: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وخليل حاوي وغيرهم, فشرعت أقرأ أعمالهم الشعرية بشغف وإعجاب, ومودة وانحياز, وأفتن بمظاهر التجديد في إبداعهم ومخالفتها للأطر التقليدية التراثية في تاريخ الشعر العربي الموغل في تبني السلفية والنسج على منوالها والاحتذاء بمنهجها, وكان أول عمل شعري قرأته لخليل حاوي هو ديوانه الذي افتتح به حياته الأدبية شاعراً متفرداً خارجاً عن السرب وأحدث به ضجة كبرى في الأوساط الثقافية وعنوانه( نهر الرماد) ثم طالعت لاحقاً مجموعتيه( الناي والريح) و( بيادر الجوع) ومن محصلة هذه القراءات والمطالعات وما كتب ونشر من نقد عن هذه المجموعات الثلاث, لفت نظري هذا الشاعر الساطع على دنيا الشعر كشمس تخترق الضباب في نهار خريفي غائم, بصوته العربي ذي النبرة الهادرة ينطلق من لبنان متغنياًفيه بالانبعاث القومي القادم للشخصية الحضارية المأموله في بنية الجيل العربي الجديد الخارج من قمقم التوابيت والأضرحة والتحنط الطويل,تذوب فيه ذات الشاعر الفردية الخاصة في الذات الجماعية العظمى ذات الشعب وطليعة الشعب يقول حاوي معبراً عن ذلك:‏

يعبرون الجسر في الصبح خفاقاً‏

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد‏

من كهوف الشرق, من مستنقع الشرق,‏

إلى الشرق الجديد‏

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد‏

في وقت كانت فيه أصوات سعيد عقل ومن لف لفه في مواقفها الانعزالية ونزعاتها الإقليمية تنادي بالجغرافية اللبنانية الضيقة وبإحلال العامية في الشعر والنثر محل الفصحى, والترويج للكتابة بالأحرف اللاتينية بدل الأحرف العربية. كما شد الحاوي انتباهي من حيث مضامين شعره بمعالجته في قصائده لهموم عصرية مأساوية يعاني منها الإنسان العربي المتفتح على النهوض والقيامة, في صراعه المرير القاسي ضد قيم بالية نخرة تسود واقع المجتمع المتكلس القديم في أقطار العروبة, وفي محاولته التمرد والانتصار على نواته المسحوقة المستلبة بفعل قوى سيطرة الخزعبلات على عقله والشعوذات على روحه, وفي نشدانه الخلاص من أوضاع التخلف السائدة في مناحي حياته وفي سعيه المقهور للتسلح بالوعي العلمي والاتجاه العقلي ورفض الخرافات بأنواعها والاحتكام إلى منطلقات النزوع المنطقي في ممارسات أفراده اليومية المختلفة وإبعاد الهيمنة الغيبية عن وقائع حياتهم الرتيبة المستسلمة لقدرها المرسوم في الخنوع والتقبل والصمت للقوى الاجتماعية المتسلطة, والخروج من طابع( الدروشة) والاتكالية الغالب على تصرفاتهم وأفعالهم.‏

ولم يتوقف الحاوي عند هذه الحدود وإنما أشرع تجربته الشعرية على آفاق وجودية إنسانية غنية تتصل بصلابة عالمه الشعري ورهافته من جهة صياغاته وتقنياته الفنية وتغوص في الوقت ذاته إلى الأعماق في مجاهل الفلسفة الكونية الشمولية من جهة موضوعاته وأفكاره ومعانيه, وبهذا وغيره يمكن القول: إن منجزات الحاوي الشعرية تعالج على صعيد المضمون محتوى جليلاً منكسراً محزناً وتصدر عن نفسية حساسة متوفزة الأعصاب محترقة الشعور وتتسربل بإيماضات سديمية ذات درجة فجائعية عالية الإبداع قوية المجابهة, أما من حيث الشكل والأسلوب فقد وفق إلى مدى بعيد في طلائع ثورته التعبيرية مستهدياً بأصالته التراثية ورصيده الثقافي إلى ابتكار صيغ شعرية عربية عريقة المحتد بالاضافة إلى حاملها من الموروث الشعبي والوجدان الجماعي, منسكبة في وعاء من الحداثة الواعية الطافحة بألوان الجماليات في أنساقها التكوينية, وبناها العضوية ورؤاها الاكتشافية.‏

يتبع‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية