|
محطة لقد نجح الإعلام الأمريكي, المسيطر على ثلاثة أرباع وكالات الأنباء العالمية الرئيسة, والمغذّي لتسعين بالمئة تقريباً من البرامج في العالم, بإدخال موضوع الانتخابات الأمريكية لكل بيت في الكون, حتى أصبحت كثير من الشعوب تعرف عن تفصيلات الحياة الشخصية والعائلية لباراك أوباما وجون ماكين ونائبيهما المختارين.. أكثر مما تعرف عن أبنائها المراهقين وجيرانها القريبين, ومواطنيها المقيمين في أحياء ومدن أخرى, أو ممن ينتمون لجماعات عرقية أو دينية أو طائفية مختلفة. وإذا لم تحدث مفاجأة غير متوقعة تقلب تنبؤات مراكز استطلاعات الرأي العام, فسيكون باراك أوباما أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة والعالم الغربي من أصول أفريقية. وهو ما يعني في جوهره أن أمريكا الشعبية والرسمية تغلبت على العنصرية ضد السود والملونين والأجانب, لا سيما أن مشاعر الكراهية بين البيض والسود لم تختف, بل برزت بجلاء ووضوح في الحملات الانتخابية لهذا الموسم, حيث أثيرت شكوك كثيرة حول مدى صدقية مسيحية أوباما, وعلاقته بالانتماء الديني لوالده الكيني المسلم, وسنوات طفولته وشبابه الأولى في أندونيسيا, وغير ذلك من أطروحات تفوح منها رائحة العنصرية البغيضة. ولكن خلافاً لما توصلت إليه مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي العام, فإن بعض المحللين يحذرون من الإفراط في التفاؤل إزاء نجاح أوباما, ويشيرون في هذا السياق إلى الخسارة التي تعرض لها رئيس بلدية لوس أنجلوس الأسود توم برادلي, الذي خسر الانتخابات على نحو غير متوقع عام 1982 لمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا, بخلاف توقعات ونتائج استطلاعات مراكز دراسات وأبحاث الرأي العام آنئذ, إذ قد يصوّت عشرات الملايين مدفوعين بأسباب وعوامل عنصرية بحتة وليست سياسية أبداً. وإذا كانت استطلاعات الرأي الحالية تؤكد سيطرة الجمهوريين على 21 ولاية, وسيطرة الديمقراطيين على 18 ولاية, فإن (الولايات المتأرجحة) بين الجمهوريين والديمقراطيين وعددها إحدى عشرة ولاية ستكون أصواتها حاسمة في هذه الانتخابات. وبصرف النظر عما إذا سيصدق المتنبؤون والمنجمون ومراكز الاستطلاع أم سيجانبهم الصواب وتخالفهم الوقائع الميدانية, فإن الرئيس الأمريكي القادم لن يكون (المهدي المنتظر) للعرب والمسلمين, الذي سيملأ الأرض عدلاً وسلاماً, بعد أن ملأها سابقه جورج بوش (ومن سبقوه من الرؤساء الأمريكيين) جوراً وظلماً وغطرسة وعدواناً على الشعوب والأمم والإنسانية جمعاء. وإذا كانت الضجة الإعلامية الهائلة نجحت في غسل أدمغة عامة الناس وملأتها بقصة الانتخابات الأمريكية, فإننا نستغرب كيف أن عشرات المفكرين والباحثين والمحللين العرب انساقوا وراء أوهام لا أساس واقعياً لها, مثل الجزم بأن يوم غد سيكون حداً فاصلاً بين سياستين واستراتيجيتين وتوجهين وفلسفتين, بحيث ستنتهي سنوات الحروب الاستباقية والسياسات الأمريكية العسكرية والاقتصادية الخطيرة, التي قادها (رئيس غبيّ) مُنساق وراء أوهامه وخيالاته الدينية المريضة, ووقوعه تحت هيمنة تيار من السياسيين المحافظين, المتشددين الذين يتوسلون العنف والقوة والحروب, لتحقيق أهدافهم وأحلامهم الامبراطورية التوسعية المتطرفة. والمستغرب, إن لم نقل المفجع والصادم للوعي والعقل أن (محللينا الكبار) هؤلاء هم أنفسهم, الذين كانوا قد (بشرونا) بالخير والسلام والاستقرار على يد جورج بوش الأب (العارف والخبير بقضايا المنطقة العربية ومشكلاتها), ثم هلّلوا طرباً وسعادة لنجاح ابنه (جورج بوش الحالي) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. والحقيقة, فإن المواطن العربي المتابع والمهموم بما يجري ويحصل من حوله من تغيرات وتحولات زلزالية مدوّية, لم يعد يثق بجهابذة (التحليل) و (الفكر السياسي العربي), و(خبراء) الفضائيات العربية, الذين أرهقوا الناس بمحاولة إقناعهم بأن سياسات الولايات المتحدة ستتغير تبعاً لتغير رؤسائها, وأن المسألة برمتها مرتبطة بالقدرات والأهواء الشخصية لهذا الرئيس الأمريكي أو ذاك, وهم بذلك يقيسون النظام الأمريكي على ما يجري في بلدان (العالم الثالث)!!. ومن المؤسف أن معظم محلّلينا السياسيين للشؤون الأمريكية لا يدرسون الوقائع بموضوعية وعقلانية وعلمية, وإنما يسايرون رغباتنا وعواطفنا وتمنياتنا, غير آبهين بدراسة المصالح الأساسية المحرّكة لهذه الدولة العظمى, المبنية بالدرجة الأولى على ترميم الاقتصاد الأمريكي المضطرب, وكيفية الخروج من الأزمة المالية الخطيرة, التي تعصف اليوم بالبنوك والأسواق والبورصات, حتى أنها أصبحت هي القضية المركزية والمحورية هناك, تليها بعد ذلك مباشرة قضية البؤر العالمية الساخنة, والأكثر اشتعالاً وتأثيراً على الأمن القومي الأمريكي والمصالح الحيوية والاستراتيجية الأمريكية, وفي مقدمتها(الحرب المفتوحة على الارهاب) في ساحات عالمية مختلفة, وأولها الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط وباكستان والقرن الأفريقي, وهي حملة فاشلة بصورة مدوية. وإذا بقي للإدارة الأمريكية, وللرئيس وقت ما على هامش برنامجه المكثف والممتلئ والمضغوط جداً, فإن هذه الإدارة ستلتفت عندئذ لمسألة تحسين صورة الولايات المتحدة.. عبر حملة جديدة من العلاقات العامة والبرامج الإعلامية والثقافية الخاصة الموّجهة, وغير المجدية أيضاً.وإنه من الخطأ البالغ أن نتجاهل وظيفة المؤسسات ومراكز الأبحاث والتفكير الاستراتيجي وتأثير جماعات الضغط القوية, ومجمعَّات المال والبنوك, والشركات الكبرى, ولا سيما في ميداني صناعات الأسلحة والنفط, دون أن ننسى بالطبع توجهات الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد وبرنامجه الانتخابي والتنفيذي, الأمر الذي يعني أنه (أي الرئيس الأمريكي) سيكون مقيداً أو ملتزماً بالقوانين وتوجهات الكونغرس من جهة, ومصالح القوى الأساسية والفاعلة في المجتمع ومؤسسات الدولة من جهة أخرى. ومن المؤكد أن قضايانا المحورية والمركزية لا تحل بالأمنيات, ولا بالمراهنة على حسن أخلاق الآخرين ودوافعهم الشريفة, ولا على التغييرات الداخلية في (إسرائيل) والولايات المتحدة, حيث إن كل رئيس أمريكي جديد فاق سابقيه في مساندة الكيان الصهيوني, الذي يرتبط مع الولايات المتحدة كدولة ونظام وقيم بأوثق العرى والروابط السياسية والاستراتيجية والعسكرية والمالية والدينية والروحية. فلنتوقف عن بناء قصور الأوهام, ولنعد إلى شعوبنا وقدراتنا الذاتية, ولنمتلك رؤية سياسية- اقتصادية عملية, مبنية على إرادة حرّة وقرارات وطنية وقومية عربية مستقلة, ولنحتكم في خلافاتنا إلى مصالح أمتنا وضمائرنا وعقولنا, لا إلى البيت الأبيض وتل أبيب, وعندئذ لن تخيب آمالنا, ولن نراهن على السراب, أو على محاولات كسب قلوب ساسة هذه العاصمة أو تلك, في مواجهة بعضنا بعضاً, أو بناء حساباتنا على مواقف الآخرين وسياساتهم, أو الانتظار دون جدوى (للمنقذين) القادمين من وراء البحار أو المحيطات أو المجهول. www.khalaf-aljarad.com |
|