تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لماذا التفكير؟

آراء
الخميس 12-1-2012
د. هزوان الوز

كلنا يذكر إسحق نيوتن الذي سقطت عليه التفاحة، لو أنه لم يفكر تفكيراً إبداعياً، لما كان السبّاق في اكتشاف قانون الجاذبية، ذلك التفكير الإبداعي، ابتعد به عن التفكير العادي الذي قد يستخدمه أي شخص آخر، سقط عليه شيء ما من أعلى،

واكتفى بالقراءة السطحية له دون أن يستنتج أفكاراً مبدعة تكون قد تولدت منه، أما نيوتن فقد تعمق في التفكير الناقد لما حصل، فراح يتساءل ، ويحلل، ويخمن ويتحقق إلى أن وصل إلى اكتشافه الكبير الذي تعلمه جميع الطلبة في كل أنحاء العالم واستخدمه الملايين حتى وقتنا الحالي، في مجالات الصناعة والبحث والتجارب العلمية المختلفة.‏‏

إذاً، هو لم يكتف بـ ماذا حدث؟ ، وإنما راح يفكر بـ لماذا حدث؟ وكيف حدث؟‏‏

كانت الحاجة إلى التفكير الإبداعي ملحة في كل عصر من العصور الماضية، ولولا المبدعون لما أصبح لدينا هذا الكم الهائل من الاختراعات والاكتشافات، والإنجازات العلمية والأدبية والفنية التي نقشت أسماء مبدعيها في الذاكرة الإنسانية على مدى العصور.‏‏

وما أحوجنا في هذا العصر، عصر العلم والتكنولوجيا والمعرفة والعولمة وتفجر المعلومات، إلى أن نواكب هذا التقدم السريع بالمشاركة الفاعلة في المعرفة والتعلم والإنجاز، لنقدم للعالم إبداعات خاصة بنا، ناتجة عن أعظم ثروة نمتلكها، وهي العقل.‏‏

ولا يتعارض هذا مع ما يدعو إليه «ماتشادو»، وبما توصل إليه الكسندرو روشكا، من أن الذكاء حق طبيعي لكل فرد. وأن الإبداع يمكن أن يكون جماعياً، كما لا يتعارض مع أفكار هبارد حول إمكانية تعليم جميع الأفراد ورفع قدراتهم، ودرجة ذكائهم إلى أعلى مستوى.‏‏

فالتفكير عبارة عن سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريق واحدة أو أكثر من الحواس الخمس: اللمس والبصر والسمع والشم والذوق.‏‏

ويعد التفكير من الظواهر النمائية التي تتطور عبر مراحل العمر المختلفة، كما يعد من أكثر الموضوعات التي فيها تختلف الرؤى وتتعدد أبعادها وتشابكها فتعكس تعقد العقل البشري وعملياته، وما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات قدرته على التفكير، فمن خلال رحلته الطويلة الشاقة من العصور البدائية إلى عصور الحضارة قد استطاع أن يواجه مشكلات لا حدود لها، هذه المشكلات تزداد صعوبة وتعقيداً بتطور المجتمع وتغيراته السريعة.‏‏

الدكتورة فضيلة عرفات ترى أن التقدم الحضاري الذي نلمسه في مختلف جوانب حياتنا المعاصرة إنما يعود إلى تطور ونتاج تفكير أجيال متعاقبة من الجنس البشري، ويرى الوقفي أن عملية التفكير تمر بمراحل تشبه الدائرة، لذا أطلق عليها الدائرة الفكرية، حيث إن التفكير الإنساني ينجز خمس مهام أو وظائف رئيسة هي: وصف ، تفسير، تقرير، تخطيط، تنفيذ.‏‏

وتظهر هذه الوظائف كما لو أنها متصلة ببعضها البعض، فالفكر يبدأ فعالياته الفكرية بوصف للمعلومة أو المنبه الذي يستقبله الدماغ، ويبدأ الإنسان بالتوسع بهذه المعلومة وتفسيرها بأن يضيف لها مما في ذاكرته من خبرات ومعارف لإلقاء المزيد من الأضواء عليها، وتبين أسبابها أو التنبؤ بنتائجها، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى تقرير ما يجب فعله تجاه هذه المعلومة، فيضع خطة لتنفيذ العمل وتوجيهه، وقد يتخذ قراراً بشأن منبه جديد.‏‏

ولقد أشار العديد من علماء النفس مثل شيرر وغولدشتاين إلى أن تفكير الإنسان متنوع وعريض الحدود، ويمكن بواسطة طريقة التفكير أن يحدد الفرد نوع التعليم الذي اكتسبه بخبرته من العالم ويمثل التفكير نوعاً معقداً من أنواع السلوك البشري، الذي يأتي ترتيبه في أعلى مستويات النشاط العقلي، فهو عملية معرفية تتميز باستخدام الرموز لتنوب عن الأشياء والأشخاص والحوادث.‏‏

ويعد التفكير من حاجات الإنسان الأساسية، وله علاقة بالمجتمع حيث يتعين على الإنسان أن يفكر ويتخذ قرارات سليمة تمكنه من التكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه، ومن هنا يعتقد أن قرار تعليم التفكير يعد قراراً سياسياً، فالمجتمعات المتقدمة تغرس في أبنائها صفة الثقة بالنفس والاعتماد عليها، وتؤهلهم لاتخاذ قرارات سليمة وتمنحهم الفرصة الكافية للنظر فيها لذلك فإن حسن إدارة شؤون المجتمع تتطلب إعداد جيل من المفكرين الذين يحسنون تصريف أمور الأفراد على أسس قوية من الوعي والفهم.‏‏

تقول الدكتورة عرفات: يتطور التفكير عند الأفراد بتأثير عوامل البيئة والوراثة، وقد استخدم الباحثون أوصافاً عديدة للتمييز بين نوع وآخر من أنواع التفكير، وربما كان تعدد أوصاف التفكير وتسمياته أحد الشواهد على مدى اهتمام الباحثين بدراسة التفكير وفك رموزه منذ بدأت المحاولات الجادة لقياس الذكاء بعد منتصف القرن التاسع عشر.‏‏

ومما لا شك فيه إن للبيئة أثراً كبيراً على أفراد المجتمع، فهي تملي عليهم أنماطاً سلوكية معينة، ولذا يرى ستيرنبيرغ أن بعض الثقافات تؤدي إلى أساليب تفكير معينة دون غيرها، وهذا ما أكدته نتائج الدراسات التي قارنت بين أساليب التفكير في أقطار مختلفة، إذ أكدت الدراسة المعروفة التي أعدها هونج وسيسكو في عام 1994 تفوق الطلبة الصينيين في أسلوب التفكير العملي على الطلبة الأميركيين.‏‏

كما أوضحت إحدى الدراسات، منها دراسة هاربسون وبرامسون إلى وجود الفروق بين السيطرة النصفية للدماغ وبين أساليب التفكير، كما أشارت إلى سيطرة النصف الأيسر من الدماغ إلى استخدام التفكير التحليلي والواقعي أما سيطرة النصف الأيمن من الدماغ فقد تؤدي إلى استخدام أساليب التفكير التركيبي والمثالي.‏‏

توظف كلمة التفكير Thinking في حديثنا اليومي وعند قراءة كتاب معين، إذاً فالتفكير بمعناه العام يشمل كل أنواع النشاط العقلي، أو السلوك المعرفي الذي يتميز بتوظيف الرموز في معالجة الأشياء والأحداث بدلاً من معالجتها عن طريق النشاط الظاهري المحسوس أو المادي وعملية التفكير عملية مستمرة في الدماغ، لا تتوقف أو تنتهي طالما أن الفرد في حالة يقظة، أو حتى كان مسترخياً، إلا أن دماغه في حالة نشاط وعمل دائمين، فهذا النشاط الدائم يسمى بالتفكير، ويرجع الاهتمام بالتفكير إلى عهد بعيد في التاريخ، فقد اهتم به الفلاسفة اليونان الأوائل، وبدأ الكائن البشري يفكر بظواهر الوجود والوجود الإنساني منذ بداية مسيرته الحضارية عبر العصور، غير أن الكثير من الأمور ضايقته وهددت بقاءه، ولم تكن واضحة الأسباب والعلل.‏‏

وعلى الرغم من قوة الإرادة إلا أنه أخفق في بلوغ الكثير من الأهداف، وهنا انعطف الفكر الإنساني نحن الآفاق الروحية والطقوسية التي تألفت منها الحكمة العقلية، والفلسفية والعاطفية للإنسان، وقد حاول الفلاسفة أن يصلوا إلى ماهية التفكير من خلال تعريفهم للعقل، وعدوا العقل أحد الأسباب الثلاثة الموصلة إلى العلم، وهي: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل. أي إن التفكير نتاج لها.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية