تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عندما يتنكر المثقف لتراثه...

ثقافة
الخميس 30-4-2009م
هفاف ميهوب

«لا يكفي أن نمنح الكاتب حرية قول كل شيء، بل يجب أن نكتب من أجل جمهور يتوفر على حرية تغيير كل شيء..

وهذا معناه، فضلاً عن محو الطبقات وإزالة كل ديكتاتورية، كلمة واحدة و الأدب هو، في جوهره، ذاتية مجتمع يعيش ثورة دائمة».‏

إنه قول للفيلسوف الفرنسي، المثقف الشامل «جان بول سارتر»، ذلك أنه بدأ بالفلسفة ثم بالرواية فالصحافة فالنقد والجدل والمسرح. ولكن، ماذا يحصل عندما يشطب هكذا فيلسوف، كل تاريخه بجرة نكران؟!... بل ماذا يحصل عندما ينقض ويحطم طروحاته وكتاباته، مصرحاً بأن كل ما كتبه كذب لا حقيقة؟!... بدأ فيلسوفاً، رسالته في الحياة التساؤل عن الوجود القلق، وكان ذلك في كتابه «الكينونة والعدم» الذي تلاه برواية «الغثيان» راصداً في الكتابين، اللذين اختلفا بالشكل، تفاصيل الحياة اليومية في تماسها بما ورائيات ما هو كائن..‏

كان هذا، حتى حدود الحرب العالمية الثانية، والتي وبعد اندلاعها وقيام ألمانيا النازية باحتلال فرنسا، انخرط الكتاب في المقاومة، ما جعل «سارتر» ينتبه إلى علاقة الحرية بمسؤولية الفرد في الدفاع عنها خارج الوصايا والتعاليم الدينية المثالية، والآراء الفلسفية فكتب مسرحيته «الذئاب» مدركاً من خلال نجاحها أهمية أن يقدم الكاتب للمتلقي «القارئ» حرية تفيده في الدفاع عن الحرية بالمطلق ومن هنا كانت مقولته: «ما من فن إلا من أجل الآخر، وبواسطته»...‏

بعد تجربة المقاومة والحرب، تبدى «سارتر» بوجه آخر لما عبر عنه في روايته التي اقتنصت كل سلبيات حياة الطبقة البرجوازية، فبدأ ينشر في مجلة «الأزمنة الحديثة» مقالاته الشهيرة التي صاغ فيها تصوراته حول الالتزام في الأدب والتي نشرها عام 1947 في كتابه «ما الأدب؟»..‏

إنها تصوراته عن كيفية تغيير الإنسان والمجتمع، والتي من خلالها استوحى إجابات لأسئلته القديمة، الحديثة - ما الكتابة؟ لماذا نكتب، لمن؟‏

وأجاب: الكتابة توضيح للحاضر من خلال تعبير الكاتب عن نفسه وعن عصره، أما أولئك الذين نكتب لهم، فهم كل القراء الذين يشاركوننا الوعي..‏

وهكذا، نجد أن بدايات «سارتر» انطلقت من الفلسفة والأدب بهدف رسم فضاءات الالتزام الثوري متحرراً من قيود الأحزاب، لكنه، رويداً رويداً، بدأ بالابتعاد عن الإبداع الأدبي وانغمس في الكتابات السياسية والقضايا التي تتعلق بها، ولا يكتفي عند هذا الحد. وإنما، وكما تبين للكثيرين من الذين اهتموا بسيرته، فقد تنكر في سيرته الذاتية «الكلمات» والتي نشرها عام 1964 للأدب ولنفسه، فأبدى كراهية تجاههما، بل وندماً على انخراطه بالعمل السياسي وتحليلاته الخاطئة، وكل هذا، ربما كان سبباً في أنه لم يترك وراءه حصاداً يذكر...‏

فلماذا؟!... بل كيف بإمكان المثقف الشامل أن يتنكر لبصماته دون أن يخشى أو يهتم بأن يتنكر له التاريخ؟ وهل حقاً، وكما صارح أحد الزعماء اليهود الذين تشبع بفلسفتهم، بأنه ينقض اطروحاته وكتاباته التي لم يعرف خلال كتابتها كما أسلف، القلق. وهل فعلاً وكما صرح له، ما كانت روايته «الغثيان» وكتابه «الكينونة والعدم» سوى اختلاق وكذب لا علاقة لهما بالحياة ولا يوافق على ما أورده فيهما من آراء وتحليلات ومفاهيم؟...‏

لا أحد يدري.. فربما كل ما قيل محض افتراء رغم تأكيده من قبل دارسي «سارتر» والمقربين منه وربما يعاود من يحبه ويتحمس للآراء التي أبداها، مجده، معتبراً إياه علامة مميزة وبارزة في تاريخ الفلسفة والأدب في فرنسا..‏

أخيراً.. أقول: إن هذا الرجل الذي فقد بصره قبل أن توافيه المنية، رحل فاختفت برحيله صورة المثقف الشامل والفيلسوف القلق، بل اختفت بصمة من بصمات الإبداع المتجسدة باشتعالات كثيرة لأفكار القرن العشرين بكل تناقضاته وقضاياه؟...‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية