تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


محطات في مشروع النهضة العربية

آراء
الأربعاء 22/10/2008
يوسف مصطفى

كان الهاجس النهضوي للأمة العربية عبر تاريخها هاجساً كبيراً, وهماً شغل بال وأقلام النخب المثقفة وطلائع التنوير العربي من نجيب عازوري إلى ساطع الحصري إلى قسطنطين زريق وزكي الأرسوزي

إلى العديد من الأدباء والمفكرين ومن مواقع مختلفة والأمة العربية شهدت أكثر من مشروع نهضوي تمثل أوله في الدعوة المحمدية الإسلامية وماحملته من أفكار وقيم وتوحيد وعالمية وانفتاح وصلت به حدود الصين وتخوم أوروبا.‏

كانت الحضارة العربية الإسلامية منفتحة على الحضارات الأخرى تمثل ذلك بالأخذ والعطاء, حيث نشأ عبر هذا التثاقف ما عرف بالحضارة (الهلنستية) وهي المزيج الحضاري , اليوناني والفارسي والهندي واختلاطه العربي.‏

كانت بغداد في القرن الرابع الهجري الحاضن الفكري والجغرافي المتفاعل والمثاقف والمضيف عربياً والمبدع فكرياً وما نشوء الفلسفة لدى المتصوفة وأفكار المعتزلة وأفكار وحدة الوجود لدى إخوان الصفا وامتاعات أبي حيان التوحيدي وثقافة الجاحظ الواسعة العلمية والعقلية ثم التجلي الفلسفي الكبير في أشعار المتنبي والمعري وغيرهم , كل هذه كانت ثقافات حضارية واشتغالات حملت عقليتها وتنويرها وجديدها وغناها.‏

كانت اللغة العربية وفضاؤها الرحب أساساً في هذا الاستيعاب الحضاري ثم التأسيس العالمي للثقافة الجديدة .. كانت العربية أساساً في مفهوم الأمة, كان المفهوم حيوياً ومنفتحاً ومثاقفاً , ولم يكن دلالة جغرافية فقط هذا يعني أنه حمل مستقبليته واستشرافه كرؤية عامة قابلة للبحث والتداول ولم يكن مفهوماً مغلقاً وهذه سمة حضارية.‏

تبلور مفهوم (الأمة الدولة) مع مجيء الرسالة الإسلامية .. كان مفهوم الدولة متحركاً بين توسع وانحسار تبعاً لعوامل القوة, والضعف , أما مفهوم الأمة ودلالته المعرفية والثقافية والوجدانية فبقي متماسكاً ومتوسعاً في غالب الوعي الشعبي العربي ومساحاته ولدى الكثير من مثقفيه ونخبه الواعية.‏

للأمة العربية تراث غني وكبير في الدين والفكر والفلسفة والأدب والعلوم والاجتهاد, وكان الموقف من التراث مجال تباين واختلاف فكري لدى مفكري التنوير العربي, ما بين الدعوة لإعادة انتاجه وتمثله و موقف حداثي داعياً لتجاوزه والأخذ بأسباب الحضارة الغربية وفلسفتها ومكوناتها وثالث يدعو للاستفادة والأخذ من المشروعين والرؤيتين, ولم يحصل الحوار المطلوب بين الاتجاهات لإنتاج قاسم مشترك بل كان الخلاف والاشتغال عليه أساساً قائماً على أرض الواقع انعكس هذا في الأسس والبدايات الفكرية للمشروع.‏

التراث أساس في تكويننا لكنه يحتاج التحليل والتقويم والفرز بين المفيد و ما تجاوزه الزمن , مثلاً المؤسسات التعليمية والصحية والخدمات الاجتماعية كانت تعتمد في تراثنا على النظام الوقفي والمشاركة الشعبية والمساهمة بالزكاة وغيرها من التبرع, هذه مسألة إيجابية يمكن تطويرها والاستناد على فكرتها الإسلامية في تطوير المساهمات الأهلية في عملية التنمية, والعملية الخدمية .. مسألة الشورى كمرتكز ديمقراطي في المداولة والاجتهاد والرأي والرأي الآخر, لم يشتغل باتجاه بلورتها في صيغ ديمقراطية لها مؤسساتها وقوانينها وفعلها الشعبي وبقي مفهوم طاعة أولي الأمر بالمعنى المطلق ومعنى الطاعة دون نقاش.‏

في معاني (النهضة العربية) يرجع المصطلح إلى أواخر القرن التاسع عشر والكلمة حملت دلالة الإصلاح والتقدم .. لم يكن مفهوم النهضة واحداً بل كان متطوراً ومتنوعاً بعضه حمل الصفة الإصلاحية والإصلاحية مفهوم توفيقي وجزئي في الحراك النهضوي وهو يحمل سمته التراجعية وغياب محدداته الفكرية والعملية.. ثم كان مفهوم التقدم والتحديث وقد حمل دلالة التحرر وحركة المجتمع ومفهوم استيعاب المعرفة والتقانة وتراكمها والبناء عليها.‏

كان التهديد الاستعماري الغربي منذ غزو نابليون لمصر وحتى قيام الكيان الصهيوني تحدياً أربك المشروع النهضوي العربي, بالإضافة لعوامل ارباكاته الذاتية وكان مشروع محمد علي باشا هو الإرهاص النهضوي الأول المعاصر وذلك بإنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه كعامل قوة والقوة أساس في نهوض أي أمة, وقد شمل مشروع محمد علي وضع قاعدة علمية واقتصادية وتطوير الزراعة وتوجيه الإنتاج والسيطرة عليه بالإضافة للمدارس وإرسال البعثات العسكرية والمدنية إلى الغرب, ومحاولة توسيع المشروع إلى الأقطار العربية الأخرى.. كان محمد علي يشعر بخطر الأطماع الغربية, وقد كتب للسلطان العثماني عام 1827م يدعو إلى ضرورة تجديد السلطة على قواعد الإسلام ومبادئه والانفتاح على العلوم والتقانة العصرية, لقد اهتم محمد علي بالطباعة وأسس مطبعة بولاق ورأى الغرب في مشروعه تهديداً لمصالحة في المنطقة فحاصره وجعل سلطته في مصر فقط .. كان مشروعاً شارك فيه الشعب المصري وعلماؤه في البداية ودعوا له كان حداثياً شمل مجالات الدولة والحياة.‏

النقلة التنويرية الكبيرة كانت في أفكار عبد الرحمن الكواكبي المتقدمة والجريئة وفيها الدعوة الوحدوية الإسلامية فوق المذاهب والطوائف , كما فند في كتابه طبائع الاستبداد مساوئ الظلم وأشكاله وأنماط محاربته ومواجهته وشعر العثمانيون بخطره فقضوا عليه حيث مات مسموماً في مصر عام 1902 م.‏

مثلت الثورة العربية الكبرى عام 1916 القاسم المشترك للقاء أفكار الجمعيات الثقافية والفكرية, ودعاة التحرر مع انتفاضة الشريف حسين, هذه الانتفاضة كانت بداية انطلاقة لفكرة وحدة بلاد الشام وأن تكون أقطارها للشريف حسين وأولاده, وقامت حكومة فيصل الأولى في دمشق, كان الهاجس الوحدوي قائماً ودعوة المساواة وفكرة قيام المؤسسات والنظام البرلماني وغيرها عناوين في مشروع الثورة العربية.‏

كما قضى الغرب على مشروع محمد علي قضى كذلك على مشروع الثورة العربية عبر سايكس بيكو واقتسام بلاد الشام بين النفوذين الفرنسي والبريطاني ثم الاحتلال العسكري لسورية ولبنان من قبل الفرنسيين.‏

إلى جانب ما سبق نشأت تيارات ليبرالية في الوطن العربي تقول بالديمقراطية والبرلمانية والتعدد, وكانت قريبة من الغرب وتعامله والتكيف معه, لكنها واجهت معارضة شعبية أدت إلى انهيارها في أقطارها والتجربة البرلمانية السورية في الخمسينيات مثال على ذلك, شهد قبيل الحرب العالمية الثانية تطور في الفكر القومي اتسع بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الاستقلالات القطرية وبدأ تأثره بالفكر الاشتراكي.. جرى التأكيد في المشاريع الفكرية القومية في هذه المرحلة على التحرر, والهوية والوحدة والمضمون الاشتراكي للدولة, مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية, كانت ثورة 23 تموز في مصر عام 1952 أحد تجليات هذا المشروع تلتها ثورة آذار في سورية وثورة العراق واليمن واليمن الديمقراطي وانتصار ثورة الجزائر إلى ليبيا وغيرها من الأقطار العربية. كان يمكن لهذه الظاهرة القومية في الستينيات أن تشكل مرتكزاً للعمل الوحدوي وبداية لرؤية طويلة .. لعمل عربي عقلاني ومنهجي وهادئ وديمقراطي ومؤسساتي وبتكامل متدرج لكن بدل ذلك بدأ صراع بين هذه التيارات القومية, انعكس على أقطارها وتحول لخلافات كبيرة بين مصر وسورية والعراق وسورية واليمن الشمالي والجنوبي وغير ذلك أدت كلها لضعف الجميع وما آل إليه وضع العراق اليوم هوتراكم تداعيات الصراع مع الجوار العربي والإيراني ثم الضعف والاحتلال بالإضافة للعوامل الداخلية في بنية النظام إنها محطة تستحق الوقوف وأخذ عبرتها في الرؤية النهضوية المستقبلية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية