تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار...امرأة .. لا تمحوها الذاكرة

آراء
الأربعاء 22/10/2008
ياسين رفاعية

عندما كنت شاباً وفقيراً أحببت فتاة تصغرني بخمسة أعوام, كانت جميلة إلى حد لا يمكن وصف جمالها مهما كان قاموس اللغة يستطيع وصف هذا الجمال, أذكر أنها بادلتني العاطفة ذاتها,

ولكن الفقر جعل بيني وبينها حاجزاً, كان من الصعب علي اجتيازه, وكانت كأي فتاة عربية شرقية تخضع لسلطة أهلها, وهي لم تستطع تحدي هذه السلطة الجائرة, وخصوصاً لم أكن غنياً وما زلت, فأنا كنت من النوع الذي لا يعبأ بالثروات والمال, وعلى طريقة: (اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب) كانت حياتي هي.. هي منذ الصبا إلى الكهولة, ربما كان هذا خطأ, فلو اعتمدت قاعدة: خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود, لكنت الآن من الأثرياء, مشكلتي أنني لم أعبأ بالمستقبل, ولم أفكر يوماً إلا أن أعيش يومي, ولذلك فقدت تلك الحبيبة التي تركت في نفسي حسرة, ما زلت, كلما تذكرتها, أختنق بها.‏

وتزوجت هذه الفتاة من طبيب سرعان ما أصبح ثرياً, فبنى لنفسه مشفى در عليه مالاً وما زال, فعاشت تلك الحبيبة حياة هنية وقد أتيح لها أن تحصل على كل ما تريد.. فزوجها رجل محب عاملها معاملة طيبة, حتى قالت لي إحدى صديقاتها, وأنا أسأل عنها بعد سنوات طويلة: (إن ما وفره لها هذا الزوج يعجز عنه أي رجل آخر) لم أكن في حياتي أنانياً, ففرحت لها, وتمنيت أن تظل سعيدة ما عاشت, وخصوصاً أنها أنجبت ثلاثة صبية هم الآن حبة عينها.‏

الحب الحقيقي والنابع من قلب حنون لا يقع في الأنانية, والعاشق الحقيقي إذا لم يستطع أن يوفر لحبيبته ما كانت تتمنى, عليه ألا يقف في طريقها, بل وأن يساعدها من أجل أن تحيا حياة سعيدة. وفي الحقيقة فرحت لها عندما عثرت على رجل أصبح زوجها فوضع بين يديها قلبه وثروته كلها, والجيد في الأمر أنها اعترفت بهذا الفضل عليها فكافأته بالوفاء فلم يعد يغرها أي شيء في الدنيا سوى سعادته. وكانت أجمل مكافأة أن أعطته هؤلاء الأولاد قرة عينه, كنت ألتقط أخبارها من هنا وهناك, فقد أحببتها في شبابي حباً ملك علي كل مشاعري, تزوجت بعد زواجها بخمس سنوات, فأعطاني الله زوجة عوضتني عن كل الأسى الذي عشته فيما مضى, وكانت زوجتي تسألني دائماً عن ذكرياتي الآفلة, فخشيت أن أروي لها ذاك الحب الذي عصف بي عصف الريح بشجرة متفردة في الصحراء, وأردت دائماً أن أكتم هذا الحب في أعماق روحي.. لقد أحببت زوجتي, ولكن ذاك الحب ظل مدفوناً داخل الروح والدم والأعصاب, وكلما تذكرته أرتجف من رأسي إلى أخمص قدمي, مستلهماً من الله الصبر على ذلك الجرح الغائر الذي خلفته في عصبي تلك المرأة الاستثنائية فكنت أعيش ذكرياتها في أشياء تركتها لي, كتاب شعر أهدته لي أو قلم حبر أو ربطة عنق, أو قميص أو أزرار قميص فضية, وكثيراً ما كانت تهديني كتباً إذ كانت ذات ذوق, مثقفة, تحب القراءة وقراءة الشعر خصوصاً والروايات, حتى أصبحت تلك الكتب مكتبة أثيرة لدي أعتز بها اعتزازاً كبيراً.‏

إن الذكريات حالة أخرى من السعادة, خصوصاً هذا النوع من الذكريات كان هذا الحب يتجدد كلما فتحت زجاجة عطر من هداياها, فأعيش اللحظة التي قدمت لي فيها تلك الهدية, بل أستحضر الموقف ولحظة اللقاء والكلمات الجميلة التي تبادلناها, وإذا ما استللت قلماً من أقلامها لأكتب حضرت صورتها فوق الورق الأبيض تطل علي بجمالها الباهر الذي لم أر مثيلاً له قط في كل ما عجنت بي الحياة من بلد إلى بلد, وإذا ما كنت ذاهباً إلى لقاء رسمي, جلبت ربطة عنق مناسبة فأتذكر أول مرة عندما عقدتها بيديها الناعمتين تحت قبة قميصي, هكذا عشت هذا الحب وما زلت, بما يؤكد لي أن الحب الأصيل لا يموت مهما باعدت الظروف بين الحبيبين, وأن الحنين, دائماً, للحبيب الأول, كما هو الحنين للمنزل الأول.‏

تتقلب الحياة بنا مقالب شتى, لكن الحب الحقيقي يظل عالقاً في النفس كالصخور العالقة بجانب النهر لا تهزها عاصفة ولا يجتاحها سيل.‏

هي ذهبت إلى حياتها, لكنها بقيت عندي ما زلت حياً, أتلمس تلك الأشياء كما يتلمس المتصوف الكتب المقدسة, ويرن صوتها في أذني بين آلاف الأصوات فلا أنسى رنته ولا موسيقاه, وخصوصاً عندما قالت لي لأول مرة: أحبك..‏

سنوات طويلة, أكثر من ثلاثين سنة, وهذه الكلمة لها وقع خاص في نفسي وروحي وقلبي, كما لو أنني سمعتها منها قبل لحظة.‏

فالحب غني بذكرياته, غني بحياتها, يتمدد في النفس والجسد كما يتمدد الماء والهواء, إنه غذاء الروح الذي يتطور باستمرار فيمنح المرء نوعاً من الدعة والاطمئنان والخلود إلى النفس.‏

كنت سعيداً بها بما لا يقدر من السعادة, عندما أخلو إلى نفسي, أغمض عيني وأستعيد تلك الأويقات لحظة بلحظة وأعيشها من جديد كما لو أنها حاصلة الآن. صحيح أننا افترقنا, ولكن, بالنسبة لي على الأقل, كأننا لم نفترق, ولا أظن إلا أنها تشعر الشعور نفسه الآن, فلم تقل لي, يوماً, كلمة نابية, ولم أقل لها إلا الكلام الجميل, ويوم كان الفراق, كانت دموعنا وحدها المعبرة عن ألم الوداع, كنت مبرراً لها ذهابها إلى الرجل الآخر, الذي هو بالنسبة لأي فتاة (الرجل اللقطة) فلم يكن لي في ذلك الوقت جدار أستند إليه, ولا مال أو وظيفة, وكنت رجلاً مقطوعاً من شجرة دون أي سند, فرأيت أن تذهب لأنها كانت ستشقى معي أي شقاء.‏

لم ألتق بها منذ ذلك اليوم المشؤوم عندما وضعت راحتها بين كفي, حتى اليوم أتلمس هذا الدفء بين راحتي كأنها فارقتني قبل لحظة, وقبل أن تودعني الوداع الأخير.‏

ما أروع الحب, الذي يشبه النبيذ كلما تقدم به الوقت صار أطيب, وكان أكثر تجذراً في النفس مهما تقلبت الظروف.‏

ثلاثون سنة مرت كأنها الآن أمامي بشبابها النادر, بجسدها المشدود كالسنديانة, بطولها أقل من مترين قليلاً, بعينيها القمحيتين المضيئتين كقمرين.‏

لن أنسى ذلك الجمال, الذي عشش في نفسي كما يعشش نور القمر في رؤوس الجبال وعلى أطراف الوادي وأسطحة المنازل ذات القرميد الأحمر أو الأخضر.‏

كانت فاتنتي بكل ما لهذه الكلمة من معنى, وبيني وبين نفسي أحببت دائماً ألا أتزوج بها, وألا تصبح زوجة لي, خوفاً على هذا الحب من الأفول.. نعم, الحب في الزواج يصبح عادة, لم أكن أحب لهذا الحب أن يصبح عادة من العادات, طبخ ونفخ وأولاد ومشكلات لا حصر لها.. كنت أحب لهذا الحب أن يكون متفجراً على الدوام ومتجدداً باستمرار كما معدن الشمس, قوياً قوة الصخور في الأعالي, وهكذا ظل ولا يزال.‏

عندما جاءني نعيها كنت على بعد آلاف الأميال, فبكيت في الشوارع كالأطفال, ضربت جدران المنازل بكلتا قبضتي حتى أدميتهما. ما كان أحد يعرف سبب هذا الجنون المفاجئ.. لقد أحسست أن روحي انسحبت مني وأنني جسد مثخن بالجراح.‏

واليوم, إذ عدت إلى دمشق, فلم يعد همي كل يوم سوى الذهاب إلى قبرها الرخامي واضعاً عليه باقة من الزنبق.. دامع العينين.. فكم أحببت تلك المرأة.. وكم.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية