|
كل أربعاء سفارتان تكملان في الشكل خريطة سايكس-بيكو, رغم اكتمالها, وتعطيان في المضمون معنى للتحولات التي عصفت بالمنطقة على مدى العقد الأول من هذا القرن, رغم وضوح معناها منذ أوائل العقد الأخير من القرن الماضي, ومنذ احتلال الكويت والصراع الدموي على النفط واستيطان القوات الأمريكية على رمال الجزيرة العربية وما حولها حماية للسائل الأسود ودفاعا عن قدس الكيانات الصغرى المهددة بالغزو من الجار الشقيق, والمباحة حتى نخاع العظام للفاتح الأمريكي. كنا نقول إننا في سورية ولبنان شعب واحد في بلدين, فيقلق الانعزاليون العرب أينما وجدوا من هذا الواحد الذي يوقظ الشعور القومي, ويهدد السيادة والاستقلال, وينذر بالابتلاع والإلحاق, وهو الأمر الذي لم يحدث, ولم يكن على جدول أعمالنا منذ أكثر من ستين عاما, وتحديدا منذ لفحت وجوهنا بركة نسائم هذا الاستقلال البهيج. لا بأس, وفي غمرة الترتيبات الجارية لتجهيز سفارتين وسفيرين في كل من دمشق وبيروت, سوف نذهب إلى الإعلان التقليدي المستفز الذي يقول إننا شعب واحد في اثنين وعشرين بلدا, من سواحل المغرب العربي على المحيط إلى سواحل الخليج العربي, وأن مشروع الوحدة العربية ليس نبتا شيطانيا على هذه الأرض, وأن إيماننا القومي لا ينال منه افتتاح السفارات في اثنين وعشرين بلدا عربيا, وأن الاستقلال في ثقافتنا هو استقلال الأمة, والسيادة هي سيادة الأمة وكل ما عدا ذلك هو تبعية وارتهان, وتسول لوصاية خارجية تبدأ بالرعاية وتنتهي بالاحتلال. لا وحدة عربية بالإكراه, ولا اتحاد بقوة السلاح, وغزو الكويت لم يكن تجسيدا لفكر وحدوي, بل حرب مصالح نفطية بين شقيقين جارين, تمخض عنه قرار عراقي طائش بالغزو, ليتحول فيما بعد إلى مسوغ يختال بواسطته جورج بوش الأب, على رمال الجزيرة العربية بحشده العسكري المدجج بالبوارج الحربية والدبابات, وتقنيات القتال الحديثة, ثم تتدحرج كرة النار بعدها, حربا بعد حرب, واحتلالا يمهد لاحتلال جديد. غزو الكويت لم ينسف المشروع القومي, مهما خلّف على حيطانه من غبار, ولم يثن القوميين العرب عن إيمانهم, بأن الخيار الشعبي لم يتبدل, والنزوع إلى بناء تلك الدولة القومية المفقودة هو الحل, وأن الصراع بين الفكر الانعزالي ونقيضه القومي الجامع, صراع يستعر على الحدود وفي العواصم ومحيط السفارات البائسة, التي ترتضي بها دويلات العرب الحاضرة, مظهرا وحيدا للسيادة والاستقلال. الانعزاليون العرب أينما وجدوا يصفقون اليوم طربا باستحداث سفارتين جديدتين بين بلدين عربيين جارين دون أن يعني الشكل هنا شيئا, ودون أن يرمي المضمون إلى أي شيء فالدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة, لم تزد ولم تنقص, والأعلام هي الأعلام, والأناشيد هي الأناشيد, و ضباط الأمن العام على الحدود هم أنفسهم لم يغيروا زيهم, ولم تتغير مفردات الأمر اليومي الذي يتلى عليهم كل صباح فما الذي تغير. وهم في النفوس زين لبعضهم أن يرفرف علم سورية على مبنى في بيروت, وعلم لبناني على مبنى في دمشق, يعني أن الجرة قد انكسرت, وأن الشعب الواحد في البلدين صار قبيلتين متضادتين, وأن قرارا قوميا قد خرج عن سياقه اليوم, وأن ميشيل سيسون باتت بمفردها تملك مفاتيح الحل والربط في القارة اللبنانية السيدة الحرة المستقلة: وهم في وهم بلغ اليوم أقصى حدوده فغرق أصحابه بالهذيان. |
|