تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المراقبـــــــة

مبدعـون علــى صفحــات «الثــورة»
الأحد 23-6-2013
هاني الحاج

عندما يبقى طالب ما أكثر من نصف الوقت دون أن يكتب حرفاً واحداً سوى لفترات قليلة على ورقة المسودة، معنى ذلك أن هذا الطالب في مأزق.

فتمنيت.. تمنيت من كل قلبي أن يأخذ ورقته البيضاء فوراً ويشرع بالكتابة بسرعة غريبة.. أو تمنيت لو أنه يحاول الكتابة.. مجرد محاولة فقط أو يحاول أن يحيد عينيه عن عيني ولو قليلاً ويفكر في سؤاله.. لكنه لم يفعل.‏

نزلت عن المنصة قليلاً وتجولت في أرجاء القاعة.. سرقت النظر إليه لا يزال مضرباً عن الكتابة وإن كان قد امتنع عن مراقبتي لعل سبب ذلك أنه لا يستطيع التلفت كثيراً كي لا يثير شكوكاً حوله.‏

عدت إلى المنصة.. عادت عيناه تصالبان عيني:‏

- هل يعقل أن يتغزل بي؟!..‏

أبعدت التفكير عن رأسي بسرعة:‏

- أنا مراقبة!!.‏

عدت أتجول في القاعة..‏

لن أعود إلى المنصة الرئيسية مطلقاً لأن نظراته الحادة أصبحت تحرجني.. وفطنت أن في القاعة سواه وأنا مراقبة.‏

وبدأت أراقب نظرت إلى طالبة كانت تنفرد بالمقعد الأول وقد ضبت أوراقها وأدارت نصف جسمها نحو اليمين بشكل أولت به ظهرها للقاعة وأعطت وجهها للحائط وشرعت تكتب.. تكتب..‏

إنها ذكية مثلي تماماً في العام الماضي قبل أن أتخرج وأعين معيدة للكلية.. غير أنني كنت - فيما أظن - أفتن منها بقليل وإن كان يبدو أنها تتمتع بشعر أسبل رائع.. وربما كنت أيضاً أرفع ذوقاً.. فستانها ليس جميلاً كفاية.‏

كان الشاب الأسمر قد شرع يكتب وكانت الطالبة في قربه تحاول أن تهمس له ببضع كلمات.. إنها تساعده غير أنني لاحظت أنه قد رفع ورقته بشكل واضح وبلا مبالاة حتى قرأت ما كتب إذاً هو يساعدها.‏

تأملت الفتاة.. كانت جميلة.. عيناها..؟ لم أستطع أن اراهما تماماً تقدمت خطوة: رائعتان.. شعرت بغصة في صدري.. أو في حلقي لا أدري تماماً وقفت لحظة وسألت نفسي بجرأة:‏

- هل أحسدها؟‏

لم أجد جواباً، بل وجدت أن صيغة السؤال قد طرحت خطأ فصححت سؤالي وبصراحة تامة تتناسب مع جامعية مثلي تؤمن بالعواطف وخلجات النفس:‏

- هل أريده أن يعود ويهتم بي وليس بها؟‏

هه.. إنني مراقبة وهو لا يزال على المقعد كانت الصبية لا تزال تسأل وكان هو يقطع كتابته بأريحية ليقدم لها ما تريد.‏

وفطنت: إنني مراقبة.. مراقبة أعني أنني يجب أن أطردهما فوراً من القاعة إنهما يغشان؟!‏

بلعت ريقي، واسترحت تماماً لهذه النتيجة التي توصلت إليها وضببت يدي أمام صدري ورحت أتجول بالقاعة بهدوء.. وصلت لقربهما، ووقفت ألقى علي نظرة سريعة ثم عاد إلى ورقته ورفعها من طرفها وأشار لي عبارة قرأتها الصبية بيسر..‏

الوقح.. يستصغرني: إنني مراقبة.‏

-أنت.. هنا..‏

وأشرت له بأصبعي بعصبية‏

- هذا آخر تنبيه.‏

لم يحر جواباً، تململ في مكانه ثم التفت إليها.. وابتسم.‏

أحسست بدوخة في رأسي وشعرت بشيء في قدمي فخيل لي أنني يجب أن أجلس وعلى الطاولة الرئيسية بالذات..‏

صعدت إلى الطاولة، وحاولت إلا أعيرهما انتباهاً..‏

راقبت القاعة، كان الجميع مشغولين بالكتابة الوقت يسير بسرعة نحو النهاية وكل منهم يشعر بذلك.. إلا هو فلم يكن يشعر بشيء إلا بوجودها قربه وسأكون صريحة: أزعجني ذلك.‏

عند أول بادرة منها سأطردها إنها تغش وأنا مراقبة، ومن حقي.. ومن واجبي.. أن أطرد كل من يغش.‏

وأخذت أراقبهما.. اصطفيت هذين الطالبين من القاعة كلها ورحت أراقبهما.. إنهما أكبر طالبين مشاكسين وقد بقيا طوال الامتحان يغشان ولذلك.. لذلك يجب أن يخرجا من القاعة فوراً.. فوراً وعند أول بادرة الصبية لم تعد تأتي بحركة..‏

وهو... هو وحده الذي كان يلتفت أليها يتأملها يتنهد يمصمص شفتيه.‏

وشعرت بدوار بأشياء كثيرة تختلج في نفسي تضطرب في دمي هببت عن الكرسي مذعورة هرولت نحوه وأنا أشير إليه:‏

- هناك...‏

لم يتكلم، ورفع عينيه نحوي.‏

- هذه ثاني ملاحظة.‏

-هذا واضح.‏

- سأرفع بك تقريراً.‏

تنهد.. تكلم بصوت منخفض بخلجات رقيقة:‏

- إن عينيك تدلان على الوداعة (وأخذ نفساً) على الرحمة.‏

شعرت بالرحمة.. غير أن العيون جميعاً كانت تحدق بي بشكل فضولي غريب، وما كان لي أن أتراجع ما كان ذلك مطلقاً ونظرت إلى أوراقه كان أغلبها منتهياً فممدت يدي ورفعتها وأنا أتصنع العنف:‏

-ستخرج من القاعة..‏

لم يتكلم‏

وعدت حاملة الأوراق إلى المنصة الرئيسية وخبطت يدي بعنف على المنصة وأنا ألقي الأوراق عليها فأحدثت صوتاً قوياً ارتج في أنحاء القاعة..‏

كان قد أغلق قلمه ثم توقف وألقى نظرة علي.. راقبني من الأعلى إلى الأسفل.. من الأسفل إلى الأعلى، وتوقف على عيني قليلاً.. ثم بدأ يسير بخطا بطيئة نحو الباب، وقد أطرق، واحمرت وجنتاه خجلاً.‏

فأدرت وجهي إلى الحائط لئلا يرى أحد ما هبط من عيني.‏

11/6/1965‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية