تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حين يكون المثقف شوفينياً؟

ثقافة
الاثنين 3-8-2015
ديب علي حسن

الغرب غرب , والشرق شرق , ولن يلتقيا ابدا , ليست مقولة عابرة , ولاهي الان تستحضر نفسها بلا معنى او دلالات توحي بها , الغرب الذي استنزف الشرق منذ ان بدأت جيوشه واساطيله تغزوه لتستثمر كل شيء , ولتسرق ما يمكن سرقته , لم يكن التجوال في صحاريه وبواديه ,

وواحاته حبا بالشرق , او بحثا عن ليال كانت في الف ليلة وليلة , فما لدى الغرب من هذه الليالي ربما يفوق ما قدمته الحكايات الشهرزادية , حملوا مشاعل البحث لكن من اجل التفسير والتفكيك والقدرة على الاستكشاف والوصول الى الدروب التي يسلكونها الى واحات هذا المكان من العالم.‏

الغرب وريث الحضارة اليونانية التي هي في جزئها الاكبر والاوسع سليلة الحضارة النيرة التي كانت هنا في الهلال الخصيب , هلال المعرفة والبناء والانسان , ومن على شواطىء المتوسط السوري , وانهار سورية والعراق , وما فيهما كانت الابجدية , والاساطير التي رحلت الى اليونان لتأخذ مداها ولتكون الحكاية التي لا تتوقف عن الانتشار والزيادة في كثافة المعاني والدلالات.‏

الغرب هذا الذي استطاع ان يحول نفسه الى المركز , ويعيد الدوران الحضاري من المشرق اليه , من حيث الحضارة الانسانية البكر في معناها ومبناها , وقدرتها على الخلق والابتكار , وهي ليست بالضرورة دالة على رقي وانسانية ابدا , فكما هي اختراعات للبيع والشراء , كذلك هي المفاهيم التي روج لها , وجعلها ديدن الثقافة والحراك , واذ به يختبىء وراءها لغايات واهداف.‏

لايمر يوم او واقعة الا ويؤكد الغرب انه في الاعم الاغلب يعمل على ان يبقى محور الكون والحضارة , والتركيز على نظرية المحور والقطب والاساس , لا مثقفون , ولا مفكرون الا من نجا بأعجوبة من هذه النظرة التعصبية الشوفينية , التي تنظر الى الاخر على انه مجرد تابع , او رقم في احسن الاحوال.‏

المثقفون الفرنسيون الذين تباهوا بما قدمته كما يدعون الثورة الفرنسية من مقولات , حول الحرية والديمقراطية , وغيرها من الافكار والمصطلحات التي ظن العالم للوهلة الاولى انها الحل السحري , بعض هؤلاء ان لم يكن جلهم , لايرى في الاخر الا تابعا , او عاملا في بستان الزرع.‏

يروي احد المفكرين العرب ممن تخرجوا في الجامعات الغربية , الفرنسية تحديدا , ونهلوا من الثقافة الحرة التي تشبعوا بها كما يقول في باريس , يروي هذا المفكر انه عندما عاد الى وطنه , وكان تحت الاحتلال الفرنسي عمل مدرسا لمادة الفلسفة , وذات يوم دخل عليه مفتش المعارف كما كان يسمى انذاك, وجده يشرح مبادىء الحرية والاستقلال ,فاض المدرس بالشرح , وعلى حين غرة انهى المفتش الدرس , وحين الانفراد بالمدرس سأله: ما الذي تعلمه لطلابك؟‏

جاءه الجواب : انها مبادىء الثورة الفرنسية التي درستها في جامعاتكم ورايتها عندكم ادرسها لطلابي , الحرية لاتتجزأ , ليست حرية في باريس وعبودية هنا , وكان الرد القاتل موقفا وسلوكا مخاتلا من المفتش , ما تعلمته هناك في باريس , هو لباريس , لابناء فرنسا , وليس لابناء سورية , ليس لابناء لواء اسكندرون , وليست مهمة زكي الارسوزي ان يدرس طلابه ما تعلمه هناك في باريس.‏

المشهد ذاته , لم يتغير لم يتبدل ابدا, الا في مرات قليلة, اذ ارتفعت بعض اصوات المثقفين الغربيين منادية بوقف عدوان هنا او هناك, ادانة لمجزرة او جريمة مروعة ارتكبها دعاة الحرية.‏

الغزو الاميركي للعراق , وما جره من ويلات ومصائب ومآس لم يكن ليشغل المثقفين او المفكرين الغربيين الا فيما ندر , وكنوز الحضارة التي دمرت ونهبت ايام الاحتلال هذا , لم تشغلهم الا عرضيا ومن باب الفلكلور.. انهم يطالبون بالحفاظ عليها كونها ارثا انسانيا , لا , بل ان بعضهم رأى انه من الجائز سرقتها كونها وضعت على قائمة التراث الانساني , اليس هذا التراث انسانيا وللجميع ؟ فلتذهب الى اينما اراد من يحملها.‏

المشهد ذاته يتكرر في العراق وسورية , دمرت الاثار , ونهبت المتاحف , لم يبق معلم اثري يمكنه الوصول اليه الا ودمروه , او سرقوه , بعض الاثار نقلت الى الغرب , وبعضها الاخر في مشهد مروع تم تحطيمه وعلى رؤوس الاشهاد , لم يبق شيء يدل على عظمة الانجازات الحضارية فيما بين الرافدين الا وكان مسرحا لجرائمهم , والصمت سيد الموقف , تنديد خجول هنا وهناك , وقلق يعرفه بان كي مون , ومثقفون فرنسيون وغربيون مشغولون بالمال الوهابي والخليجي.‏

اللافت في الامر ان بعض المثقفين الفرنسيين منذ بضعة ايام قاموا بحركة تضامنية مع اليونان , واصدروا بيانا يقولون فيه: من المثقفين والفنانين الفرنسيين الى الشعب الذي ينحدر من اعرق الحضارات علينا ان نفي ديوننا اليكم , ارسطو الذي قدم للبشرية علوم الفلسفة والسياسة والميتافيزيقيا والمسرح والموسيقا والشعر.‏

للحضارة في سورية والعراق , اين هم من تدمير اثار تدمر ؟ ومدينة نمرود ؟ اين من قالوا: ان لكل انسان وطنين , الاول سورية , وطن الحرف والابجدية , والثاني حيث ولد وعاش؟‏

الم تقد سورية الحرف الاول , والنوتة الموسيقة الاولى , اللون الارجواني , الم تعط الغرب اسمه ومعناه , الم يقتبس اليونانيون المسرح والفنون والاساطير من بلاد الرافدين؟‏

اليست الاساطير اليونانية استلهاما من بلاد الرافدين , ومع ذلك لم ينطق بعض هؤلاء الفرنسيين ومعه المثقفون الغربيون بأي موقف يعلن الادانة , ولربما هذا يؤكد ما قاله باسكال بونيفاس في كتابه: المثقفون المزيفون , النصر الاعلامي لخبراء الكذب , اذ قال: يرسم الغرب علاقاته مع العالم الاسلامي \ او العالم العربي , تبعا للسياسة الاسرائيلية وحسب , وهو ما يشكل الرهان بالنسبة للبعض , والانحدار الطبيعي للبعض الاخر , والفخ بالنسبة لبعض غيرهم ممن لايحسبون كل نتائج مواقفهم.‏

هو الغرب الذي يدفع بالبشرية الى هاوية سحيقة , وليس غريبا ان يتخذ بعض او جل مثقفيه هذه المواقف الشوفينية , والان نعرف ما معنى ان يكون من يدعون الثقافة وتخرجوا في جامعاتهم يحملون لقب مثقف , وهم لايعرفون من مواقف المثقف العضوي شيئا ولكنهم تجار مواقف للبيع والشراء , ولهم في اساتذتهم اسوة حسنة , وقد هان من اشتراه مال النفط الاثم.‏

ومواقف هؤلاء المثقفين كما قال بونيفاس هي في خدمة اسرائيل ,الكيان الاشني الناتىء بلا جذور.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية