|
دين ودنيا حيث يقدر عدد الزائرين سنوياً بعدة ملايين، يأتون في مواسم مخصصة، وقد نشأت على حواشي زيارة السيدة زينب حركة سياحية كبيرة حولت القرية السورية الصغيرة المسماة راوية إلى مدينة دينية تعج بمئات الآلاف من البشر، وقد تضاعف العدد عدة مرات في أعقاب الحروب الأخيرة في العراق وإيران الأمر الذي عزز مكانة البلدة كمثابة للناصرين لأهل البيت النبوي ومهوى لأفئدتهم. يقصد الناس اليوم آثار السيدة العذراء وضريح الأم تيريزا والأميرة ديانا، وفي اليابان يزار ضريح أوني سابارو ولكن ذلك كله لم يجعل من هذه الأضرحة محجاً للسياحة الدينية بالحجم الذي يعرفه العالم للسيدة الطاهرة زينب بنت علي رضي الله عنهما. جاءت زينب بنت علي مع بقية أهل البيت النبوي من كربلاء بعد المأساة الدامية التي عصفت بأهل البيت في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، وكانت تدرك تماماً رسالة أخيها الحسين الذي أعلن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية وتحرك من المدينة صوب العراق لإسقاط الخلافة الأموية التي تحولت إلى ملك عضوض لا يلتزم خيارات الراشدين. أدركت زينب من البداية أن صحبة الحسين ليست نزهة أو سياحة، فقد كانت رائحة الموت تنبعث من كربلاء، وكان الحسين قد أعرب عن القلق نفسه وقال كرب وبلاء، ولكن الأمور تطورت بشكل دراماتيكي بحيث أصبح من المؤكد أن المواجهة محتمة وأن القادم هو الحتم والقدر الذي لا بد من مواجهته. أمام عيني زينب قتل ولداها عون ومحمد في كربلاء ولم يمض وقت طويل حتى كان أخوها الحسين يواجه ببسالة لحظاته الأخيرة من الحياة. مضى الحسين إلى قدره بشجاعة وقاتل حتى النهاية وفي النهاية سقط شهيداً مع أصحابه السبعين في مواجهة كتيبة عمر بن سعد التي زاد أفرادها على أربعة آلاف، وحمل الشمر بن ذي الجوشن رأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد حاكم العراق آنذاك الذي كان ينتظر نتائج كربلاء على أحر من الجمر. كانت زينب في مقدمة النساء الذين سيقوا إلى زياد، وفي مشهد ملكه وعلوه صرخ زياد شامتاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ قالت زينب: ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة. ودار حوار طويل هم زياد عدة مرات فيه أن يبطش بالمرأة ولكنها كانت تزداد صلابة ويقيناً وقوة. واستقر الأمر على إرسال رأس الحسين إلى الشام هدية ولاء ليزيد بن معاوية ومع رؤوس الشهداء تقرر إرسال السبايا من أهل بيت الحسين إلى دمشق ليرى فيهم يزيد بن معاوية رأيه. كان مشهداً عجباً ولم يتصور أحد ان تساق نساء أهل بيت النبوة سبايا إلى حاكم دمشق، ولكنها الواقع، وبدأ مشوار العذاب وطريق الجلجثة. مرت قافلة السبايا على شاطئ الفرات وكانت تطوف في المدن الآهلة في مراد ظاهر لأصحاب الجيش الغالب، لفرض الواقع الجديد، وكان الناس تستقبل المشهد الرهيب بدموع مفجوعة، ولكن شيئاً لم يتغير من الوصف الأول: رأيت قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية!! مرت القافلة بحلب وحماه وحمص قبل أن تصل إلى دمشق وهي منهكة القوى خائرة، ولكن الهول الذي واجهته القافلة في طريقها من كربلاء إلى دمشق لم يكن شيئاً أمام مشهد يزيد بن معاوية وهو ينكت رأس الحسين بقضيب كان في يده وهو يقول: يفلقن هاماً من رؤوس أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما كانت زينب بنت علي أهم صيد في القافلة فهي أخت الحسين، ومن الواضح أنها تتبنى خياره في المقاومة، وأنها لم تذهب إلى كربلاء عفواً بدون قصد، بل كان من الجلي أن موقعها كأنثى فقط هو الذي حال بينها وبين الموت مع الحسين في ساحة المعركة، وكانت تملك الحجج والبينات على وجوب ما أقدم عليه الحسين، ومن أجل ذلك سارت في ركابه وقد كان لها في المدينة غنية وكفاء لو أنها أرادت السلامة وقرة العين. تولت زينب رعاية السبايا من أهل البيت وكان فيهم الأطفال والبنات الصغار ولم تكن تكف عن سرد محاسن الحسين وبطولاته وكفاحه من أجل الأمة الإسلامية. ولدى وصولها إلى الشام اكتشف العالم ما تعنيه هذه السيدة الحسينية فقد أصبحت اليوم خارج عباءة الحسين، وأصبح مطلوباً منها أن تقول رأيها وكلمتها، وهي تعلم أن موقفاً كهذا قد يكلفها رأسها الذي فوق كتفيها، أو قد يدخلها الزنازن الرهيبة التي لا ترى فيها ضوء الشمس، في عصر كان يزيد ينتقل فيه بالخلافة الإسلامية إلى الملك العضوض. رأت زينب مصارع أهلها وقومها، وموقف جيش يزيد من أنصار الحسين، وعلمت أنها تدعى إلى امتحان رهيب، ولكنها لم تتردد في مواجهة يزيد، وحفظ لنا التاريخ خطبتها الشهيرة: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى ان بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلا، أنسيت قول الله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ). ولم يظهر في كلام زينب أي تردد أو لعثمة، وراحت تسكب في مسمعه كلمات من لهيب: « أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخيرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي»، ثم رفعت يديها ضارعة إلى الله وقالت بيقين: « اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا. فو الله ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون». ثم التفتت إليه بعزيمة صارمة وقالت: « فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين» . كانت زينب قلقاً حقيقياً ليزيد، فقد وجد نفسه مباشرة أمام سيدة بيت النبوة، تخاطبه بلا أسرار وتقتحم عليه بلا أسوار، ولا تبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليها. ولم يشأ يزيد أن يصيبها ببطش لا تنتهي تبعاته، وتركها وشأنها، واختارت زينب عليها رضوان الله قرية راوية جنوبي دمشق، وهناك اتخذت لنفسها منزلاً سرعان ما صار محجاً ومأوى للزائرين يلتمسون عندها غرائب علم أهل البيت، وتفتيهم بما يطمئنون إليه بعد أن أظهرت صلابة فريدة في قول ما تعتقده من الحق. خلال سنواتها الأخيرة تمكنت زينب من تأسيس تيار معرفي من النساء خاصة، كان ينتشر بين دارها المقصودة ودار أختها سكينة بنت علي في بلدة داريا من ريف دمشق. من المؤكد أن زينب سافرت إلى مصر بعد واقعة كربلاء بعام ونصف وتحديداً في شعبان 62 هجرية، وهناك أصبحت أيضاً مقصداً لطالبي المعرفة والراغبين بالتواصل مع أهل البيت، ولكن المؤرخين بعد ذلك يختلفون في قولين اثنين أين ثوت زينب حين وافاها الأجل؟ هناك مرقدان لزينب واحد في القاهرة وآخر في جنوب دمشق، ولكن عدداً من المؤرخين يصرون على أن زينب عادت إلى المدينة المنورة ودفنت في مقبرة البقيع. اليوم بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على رحيل زينب فإن ضريحها في قرية راوية جنوب دمشق أصبح أكثر المراقد التي يقصدها الزائرون في سورية، وربما كان أكثر ضريح لامرأة يزوره الناس في العالم، وعلى حواشي ضريحها قامت مدينة كبيرة يقارب سكانها المليون هاجر كثير منهم من الباكستان والعراق وإيران والخليج العربي، يقصدون جوارها، ويلتمسون القرب من ضريحها وتتعاظم هذه الأرقام في مواسم عاشوراء وكربلاء ورمضان. |
|