|
دين ودنيا رغم أنها لم تكن على الإطلاق في حساب أي من المتنافسين على البيت الأبيض, ولم تكن جزءاً من برامجهم, ولكن ما جرى كان إيذاناً واضحاً بإرادة الأقدار التي لا تغالب, وماكين يريد وأوباما يريد والله يفعل ما يريد, وفعل شعار التغيير سحره في نفوس الأمريكيين وجاء الكيني الأسمر ابو حسين ليصبح أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يقلب الأيقونات كلها ويعلن اليوم الأمريكي الجديد. فما حكاية هذه الأزمة المالية? الناخب الأكبر في أمريكا? ليس بدافع الشماتة ولكن كل الانظمة المالية في العالم شمتانة بالفوضى الأمريكية, وتشقلبت أسعار النفط من60 إلى 150 إلى 50 دولاراً خلال بضعة أشهر, وتهاوت كالدومينو أكبر الشركات الأمريكية في العالم, وخاصة الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي كانت تطالب منذ عهد قريب أن تكون لها مقاعد دائمة في مجلس الأمن!! وأصبح الذين تمنوا مكانها بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا, ويكأنه لا يفلح الظالمون, وراح زعماء الغرب يتسولون من بلاد النفط عقاقير مهدئة لتخفيف آلامهم, وقدمت بلاد النفط العربي بسخاء وشهامة كثيراً من المليارات المطلوبة لتخفف الآلام الأمريكية وهي مليارات كانت كافية لرفع المعاناة عن أكثر من مليون عربي يعيشون في غزة تحت خط الفقر والجوع والحصار. قدمت الأزمة دليلاً واضحاً على أن التخطيط الأسطوري للنظام المالي الأمريكي ليس كما يقدم نفسه للعالم, بل إنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء, وأن الكوارث الرهيبة التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي تكفي للقول بأن الله وحده يعلم ما في غد, وأنه لا تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت, والعبد في التدبير والرب في التقدير. النظام الاقتصادي الإسلامي مطروح هذه الأيام بقوة للإجابة على الأسئلة الكبيرة في إخفاق الاقتصاد العالمي, وتقديم البدائل عن هذا الإخفاق العالمي المذهل الذي تعاني منه النظم الاقتصادية الحديثة. لست هنا من أجل أن أركب الموجة للقول بأن نظامنا النقدي هو الأقوى والأقدر على معالجة الأزمة المالية الأمريكية, فهذه موجة يتسابق إليها الإسلاميون والشيوعيون هذه الأيام على السواء, وتؤكد الإحصاءات أن كتاب رأس المال لكارل ماركس هو اليوم أكثر الكتب مبيعاً في العالم, ومع أنني لاأعتقد أن العالم متجه لتطبيق النظام الشيوعي في الاقتصاد, ولكنه متجه بكل تأكيد لإعلان غضبه من النظام الليبرالي الحر الذي تحكمه قيود السوق ولا يعبأ بالأخلاق والقيم. من وجهة نظري فليس المطلوب من النظام المالي الإسلامي هنا حلولاً مهنية تتأسس على نقل تجارب المصارف الإسلامية إلى الغرب من نظم المرابحة والمضاربة والمساقاة والتورق والبيع للآمر بالشراء, وغير ذلك من مبتكرات النظم المصرفية في المصارف الإسلامية فهذه الأشكال النمطية من النظم المصرفية ليست في مأمن أن يصيبها ما أصاب أخواتها من النظم في الهزة المصرفية العالمية ولكن المطلوب في رأيي هو الجانب الأخلاقي في الاقتصاد الإسلامي, وإعادة تموضع المال في مكانه الصحيح كأداة يستخدمها ابن آدم لما استخلفه الله فيه, ويحقق بها ما أمر الله به من حق الإنسان في مال أخيه الإنسان. عبر أزمة الرهن العقاري ارتكبت في أمريكا وتحت غطاء من القانون أكبر عمليات سرقة في التاريخ, وعلى الرغم من القدرات الأسطورية لحماية المصارف الأمريكية بالالكترون والبصمات والقدرات التصويرية الفائقة والرقابة والبودي غارد فقد قفز المال في غفلة من ذلك كله من هذه القلاع المصرفية الجبارة إلى جيوب فئة مجهولة لم تتمكن الصحافة الأمريكية من اكتشاف أسمائهم أو ألوانهم أو أعراضهم بعد, رغم الاعلان الرسمي أن ما فقدته أمريكا في الأزمة الأخيرة كان أكثر تكلفة من حرب العراق!! وأن المليارات التي ذهبت بصخب ونزاع شديد للإنفاق على تحالف دولي يشرف عليه الناتو ومجلس الأمن وينفذه مئات آلاف الجنود الأميركيين ليس إلا سلطة -بفتح اللام- أمام ما تكبده الأميركيون في الزلزال الأمريكي الجديد الذي ذهب بالمال والرأسمال بصمت إلى جيوب لا يزال أصحابها خارج التغطية الإعلامية, وخارج المساءلة القانونية, كما كانوا من قبل خارج التوقعات المهنية للخبراء المصرفيين العالميين العمالقة, وحين تصدر قائمة المليارديرية الجدد فإن بيل غيتس نفسه لن يجد مكاناً فيها, حيث سيحل الأثرياء الجدد من محدثي النعمة الذين نجحت مقامرتهم في الوصول كالصاروخ إلى قائمة فوربكس على حسابات الشركات العملاقة ذات قوائم الموظفين المليونية, والقائمة منذ القرن التاسع عشر. عندما يعرض النظام النقدي عن الواجب الأخلاقي في التكافل, وتحال قضايا الزكاة والتكافل الاجتماعي والتضامن بين أبناء الأسرة الواحدة إلى الكنيسة لتكون مادة وعظ على المذبح والقداس, وليست برنامج تكافل يطبق على الأرض بقوة القانون, عندما تتلقى الشركات الكبرى مطالب الفقراء بالسخرية وتقول للعالم نحن لسنا جمعية خيرية نحن شركات أرباح ومضاربة!! عندما تغدو الصدقات وأعمال الإحسان محض أوهام وخيبة أو كما قدمها نيتشه مكراً من الفقراء لابتزاز ما جمعه الأغنياء والارستقراطيون بذكائهم ودأبهم وعناء آبائهم الذين أجروا فيهم الدم الأزرق!! فإن المجتمع سينقسم تلقائياً إلى ناقم ومنقوم عليه, متربصين ومتربص بهم, متخمين وجائعين, وسيصبح منطق حلال عالشاطر تبريراً لكل القمار العالمي في الأرض. في القرآن الكريم:( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة), فجعل التهلكة نتيجة حتمية لغياب التكافل الاجتماعي, وصراع المال بالمال شرس وفتاك ولن يعود بأي فائدة أو خير على الأمة المستباحة. لا يقدم هذا المقال حلولاً للأزمة العالمية ولكنه محض صيحة لإعادة الأخلاق إلى الحياة الاقتصادية والمصرفية, إنني هنا فقط أشترك في الصيحة مع فيلسوف الشرق محمد إقبال في قصيدته الرائعة: لينين أمام الله: قالوا تجارات تدار وكل ما فيها قمار!! ومصادفات تجعل البلدان في جيب الكبار!! تاهت بأبنية المصارف فوق أبنية الكنائس وأتت لهيكلها الجديد بكل أنواع النفائس!! ألقى العزيز أحمد برقاوي محاضرته الأخيرة بعنوان أمة بلا إنسان!! وهو عنوان كاف لفهم ما تعانيه الحضارة الغربية من خواء روحي, يسمح بارتكاب الفظائع في سبيل الجشع المادي, ولا يعترض أدنى اعتراض على تراكم الثروة بهذا الشكل الأسطوري في أيدي قلة من الناس مع ما يعانيه الناس من الفقر المدقع. أسفاً لعصر ظالم طرد المحبة للسماء حصرت روائعه بما أوحت إليه الكهرباء لم يبق بعد حكومة الآلات معنى للقلوب كان الحنان ملاذنا فمحته من بين الشعوب!! إنها مفارقات رسمها إقبال بريشته, على ضفاف السين والتيمز والراين, ثم أطلق صيحته بزئير موجع على لسان لينين أمام الله: رباه أنت القادر الحق الرحيم العادل من ذاق من مر المعيشة ما يذوق العامل? الرأسماليون مركبهم يعربد في بحارك فمتى تغرِّقه? وتأخذ من مظالمهم بثارك??? * عضو مجلس الشعب |
|