تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لماذا يكتب المثقف العربي اليوم?

آراء
الاربعاء 24/10/2007
أ. د. يوسف سلامة

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم على المثقف العربي-كاتباً أو فناناً أو مثقفاً, هو لماذا نكتب? ذلك لأن المرء لا يكتب إلا إذا كان يعتقد أن ثمة فكرة في ذهنه تستحق أن ينقلها الكاتب إلى قرائه وإذا كان الكاتب أعمق تجربة وأشد ثقة بنفسه,

كانت الكتابة بالنسبة إليه متحدة بفكرة الرسالة التي يعتقد أن من واجبه أن يعيش من أجلها وأن يدعو الآخرين إلى مشاركته فكرته أو رسالته هذه, وأن لهذه الرسالة قيمة تتجاوز شخصه بل ربما الزمان والمكان اللذين يعيش فيهما الكاتب أو صاحب الرسالة.‏

لقد كان الأمر على هذا النحو فيما يتعلق بماهية الكتابة الجدية حتى منذ الخطوات الأولى لتطور الوعي البشري, الكتابة إنشاء الكتابة إضافة إلى العالم الكتابة خلق لعالم جديد على ما بين هذه الحقائق من تباين في معانيها القائمة في أذهان الكتاب وفي أذهان القراء على حد سواء, طالما أن كل كتابة تفترض قارئاً وكل رسالة تفترض متلقياً, وهكذا فإن الإنشاء والإضافة بالنسبة للروائي تتجسدان في قدرته على خلق عالم جميل من الإيهام يوجد جنباً إلى جنب مع العالم الواقعي غير أو ذلك العالم معارض ومناقض لعالم الوقائع.‏

أما بالنسبة للفيلسوف فمعنى الكتابة لا يقل عن تطلعه إلى الارتقاء بالعالم إلى مستوى القيم التي ينطوي عليها عقله وقلبه وبكلمة واحدة القيم والمعايير المكونة للوعي الذاتي للفيلسوف.‏

نعود إلى طرح السوال الذي انطلقنا منه: لماذا يكتب المثقف العربي اليوم ولكننا نحاول أن نكمل هذا السؤال على الرغم من أن ما يكتبه المثقف في الحقبة الراهنة غير قادر على التأثير في الوقائع تغييراً وتعديلاً إلا بصورة جزئية?.‏

جوابنا على السؤال يتمثل في النقاط التالية:‏

أولاً: يكتب المثقف العربي اليوم تجسيداً لقيمة النقد ودفاعاً عنها. فما لم تكن الثقافة نقدية فإنها لا تستحق أن ينظر إليها من قريب أو بعيد ومن هنا فإن المثقفين الذين هم على قدر من الأصالة لا يستطيعون إلا أن يكونوا أوفياء لماهية الثقافة وطبيعتها التي تتمثل أولاً وقبل كل شيء في الطابع النقدي الأصيل لكل ثقافة حقيقية.‏

وثانياً: يكتب المثقف العربي اليوم ليكون شاهداً على عصره, والشاهد هو ذلك الإنسان العدل أو العادل الذي لا يقول غير الحقيقة والمثقف العربي اليوم بإدانته لهذا العصر الذي يحيا فيه إنما يقدم شهادة سلبية صادقة وأداة صريحة كل الصراحة لعصرنا العربي الذي نحيا فيه, إنه عصر سقطت فيه كل القيم الرفيعة وسادت فيه كثير من القيم الوضيعة صار الفساد حدثاً عادياً والخيانة الوطنية من جانب البعض أمراً مطابقاً للعقلانية ولك أن تضيف كل ما يخطر على البال من كل ما يؤذي الذوق السليم والوجدان النقي والعقل السليم.‏

ثالثاً: يكتب المثقف العربي اليوم ليكشف عن زيف القيم السائدة وعن لا أخلاقيتها في كثير من الأحيان.‏

فقد تحركت الحدود وتخلخت بين المباح والمحظور بين الحقيقي والزائف, بين الممكن والمستحيل حتى أصبحت منظومات القيم مقلوبة قلباً جذرياً, يريد المثقف العربي أن يبين بكل الوسائل أن قيمة الباطل قد أصبحت تعلو على قيمة الحق في الواقع العربي, وأن ما يجب أن يكون محظوراً صار مباحاً في كثير من الأحيان وأن المستحيل قد صار ممكناً في بعض الأحيان أيضاً.‏

المثقف العربي محتج على هذا الانقلاب القيمي ولذلك فإنه يمارس احتجاجه هذا بفاعليته الوحيدة الممكنة فاعلية الكتابة بوصفها نقداً وإنشاء وإضافة وهجوماً على اللامعقول في كثير من جوانب الحياة ومناشط الحياة الفعلية للمجتمعات العربية.‏

رابعاً: يكتب المثقف العربي اليوم طلباً للتوازن النفسي والاستقرار الروحي ذلك أن ما يقع أمامه ويحدث كل يوم تحت نظره يهزه ويكاد يطيح بعقله وقلبه ومن هنا فإن الكتابة تحول لديه لا إلى فعل احتجاجي فحسب وإنما هي أيضاً تقوم بدور هو أشبه ما يكون بمحاولة الشفاء أو التداوي الذاتي الذي يستهدف المثقف من ورائه الإبقاء على عقله سليماً بحيث لا يدخل إلى دائرة الجنون من الناحية النفسية والقانونية.‏

وبهذا المعنى فإن الكتابة فعل دفاعي عن الذات لا يستهدف حفظ البقاء فحسب, بل هو يستهدف أيضاً حفظ العقل وبقاء الحياة الشخصية في دائرة العقل والمعقولية على الرغم من أن كل شيء من حوله يدفع به إلى اللامعقول وإلى الجنون ذاته.‏

الكتابة إذاً فعل يدافع به المثقف عن ذاته قاصداً من وراء ذلك حفظ البقاء من ناحية, وصيانة التوازن العقلي والنفسي من ناحية أخرى, وإذاً فهي نوع من التطهير الذي يستهدف مداواة الروح من بعض جراحاتها وذلك من خلال السعي إلى طرح كل هذه الأنواع من الأثقال والمعيقات التي تثقل كاهل المثقف وتجعله غير فعال بالقدر الذي يجعله قادراً على القيام بالدور الذي يتناسب مع تصور المثقف لذاته, إنه تطهير للروح من الضغوط التي تثقلها وتجعلها تستشعر أن مقاومتها غير مجدية ولا نافعة إننا نكتب لكي تظل منظوماتنا هي المقاييس الشرعية للوقائع في مقابل الاعتقاد السائد اليوم سيادة شبه تامة بأن الوقائع هي مقياس القيم.‏

ستظل الكتابة دوماً شاهد صدق على ما بين الواقع والمثال من تباين يغري الأحرار بمهاجمة الواقع ونقده, ويغري العبيد بمزيد من الطاعة والتكيف والامتثال لكل ما لايستحق أن تطيعه ولا أن نتكيف معه ولا أن نمتثل له فالطاعة والتكيف والامتثال هي من شأن مثقف السلطان الذي هو بالتأكيد مثقف لكل السلاطين دون تمييز, لأن العنصر الأهم بالنسبة إليه أن يكون في خدمة أحد السلاطين‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية