تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار...الحب كالحزن فيه شيء من التصوف!!

آراء
الاربعاء 24/10/2007
ياسين رفاعية

قلت قبل فترة, في أحد أوتار ما أكتب في هذه الصفحة: إن الحزن فيه شيء من الصوفية, دون تصوف, ومن جديد أيضاً, أجد أن الحب فيه شيء من التصوف.

(أحبك.. هي الكلمة الأثيرة عند كل عاشق.. إنها كلمة تصيبنا بالخدر والدمار).‏

حين نقولها للمعشوقة كل شيء فينا معرض للذوبان, كل شيء فينا يتغير, حتى إن وجوهنا تحمر, وكلماتنا تتلكأ ويصعب خروجها من الفم, حتى اللغة نفسها تذوب..‏

في لحظة الحب كل شيء يتعطل, حتى اللغة, ليحل محلها سكوت ناطق معبر.‏

في هذه اللحظة, لحظة الاعتراف الأول يتلاشى الزمان والمكان, وكل المشاعر تنصهر في احساس عميق بالنشوة والفرح.‏

في كلمة (أحبك) بأحرفها الأربعة, ثمة شيء يهتز في الكون قد تكون في عرق الزمان, أقل من لحظة, ولكن هذه اللحظة تصبح كالأبد.. الحب يؤبد الاشياء, إذا كانت حياتنا اليومية أربعاً وعشرين ساعة, لكن الحب في هذه الكلمة الجميلة تستمر ماثلة أمام المشاعر آلاف الساعات, تستمر في المستقبل لسنوات طويلة وقد ألقت ظلاً على حياة العاشق وامتزجت بصحوه ونومه واحلامه وهذيانه..‏

والتصقت به من داخل, فأصبح من المستحيل عليه أن يتنكر لها,وأصبحت بعض نفسه, أن لم تكن كل نفسه وروحه وقلبه.‏

العاشق الحقيق يعرف أنه في لحظة الحب ينفتح شيء فينا, حيث نلامس فيها الحقائق كلها والمشاعر التي يحتوي عليها العاشقان..‏

في هذه اللحظة التي تشبه المعجزة يحدث الانسجام من هذا التماس بين الأفكار والمعاني والاحاسيس, هكذا في هذه اللحظة يصبح كل منهما هو الآخر, فلا يصح الحب إلا عندما يقول الواحد للآخر, (يا أنا).. في هذه اللحظة يسقط آخر قناع من الواقع اليابس الذي هو صخرة من صوان, فتذوب الأنانية تفصلها, ويصبح العاشقان مصلحة واحدة وفكراً واحداً.‏

هذه اللحظة الخاطفة في لفظ كلمة أحبك, يحاول الواقع الصفيق أن يتدخل ليخرب كل شيء ويعيد الأمور إلى مستواها العادي, فيعود الهم يعزل الحبيين الواحد عن الآخر..هم الحياة بشكل عام.. هم المصاريف واجرة البيت وفاتورة الكهرباء والماء..‏

هم الزمن المتعجرف والساعة التي تتكتك على مدار الثواني التي تذكرنا أن ما يمضي لن يعود وإن البارحة لن يتكرر.. هم الزمن والساعة التي انتهت والميعاد الذي انتهى والوقت الذي حتم على كل منهما أن يفترق عن الآخر..‏

وهكذا.. وهكذا.. كل شيء لهما بالمرصاد, وأيضاً المجتمع والتقاليد الموروثة التي تعتبر الحب خارج مؤسسة الزواج حراماً, وهذا المجتمع الذي يتدخل, غالباً, كضيف ثقيل الظل في كل لحظة.‏

هناك, في سيرة الحب, الآخرون: الحساد والعواذل.. والغيارى كلهم يحاولون أن يتدخلوا ليعكروا صفو هذا الحب الجميل, فيبثون الاشاعات المغرضة, والاشاعة عادة تنتشر كالنار في الهشيم, في التضييق على حرية العاشقين, بل ومحاولة خطف هذا المعنى المتألق في وجهيهما.‏

في الحقيقة الناس تحسد الحب, تحسد الفرح, تحسد الغبطة والنشوة, في هذا الزحام نضيع ويطمس الواقع على أحلامنا ويأخذنا معه في دوامة من التكرار السخيف في الأكل والشرب والثرثرة والنوم لا نفيق منه إلا لنغيب مجدداً..‏

وتمضي حياتنا في رتابة مملة وتكرار اليوم مثل الأمس مثل الغد.. وفي هذا السياق, وهذا اللهاث اليومي نكتشف أنه قد فاتنا الحب وفاتنا التعرف عليه.. ويا لها من خسارة فادحة.‏

نقول إن الحب مآله الزواج.‏

كم تصبح الحياة بليدة بعد الزواج, نلتقي فيها بزوجاتنا كما نلتقي بدفاتر الحضور في الوظيفة, وفنجان الشاي في المقهى ثم نعود إلى البيت, وندخل إلى غرفة النوم ونمارس الجنس بدون وجدان.. دون عاطفة.. كلانا كالآلة لتفريخ الأولاد.‏

أقول أنا ضد الحب الذي يؤدي إلى الزواج.. وبالطبع لسنا ضد الزواج بحد ذاته.. الزواج شراكة, في المحصلة, مؤسسة, وقد تنهار المؤسسة وتفلس الشراكة..‏

هذا في الواقع ما نراه.. صحيح أن هناك زيجات ناجحة.. لأن الطرفين يتفهم كل منهما حاجة الآخر.. وتستمر العلاقة, ويخفف من مللها إنجاب الأولاد, الذين هم وحدهم سعادة الزوجين واستمرار الزواج.‏

الحب في المنعطف الآخر شيء مختلف‏

الشهوة التي يطفئها الزواج غير الحب, الحب تصوف وذوبان في المعشوق, الشهوة قد يولدها الانسجام بين رجل وامرأة, ولكنها أقل من الحب بكثير, فهي.. رغبة النوع وليست رغبة الفرد.. إنها علاقة بين طبيعتين, وليست علاقة بين شخصين, إنها, في الحقيقة علاقة بين الذكورة والانوثة, والفرد لا يكتشف فيها نفسه, ولكنه يكتشف نوعه وذكورته.‏

نعم.. هناك علاقة بين الحب والشهوة.. الحب يحتوي على الشهوة, ولكن الشهوة لا تحتوي عليه.‏

بالحب لا تكتشف فقط أنك ذكر, ولكنك تكتشف أيضاً أنك فلان وأنك اخترت فلانة بالذات, لا يمكن لك أن تستبدلها بأخرى.‏

إن كلمة (أحبك) هي أعمق وأجمل كلمة في حياة الرجل, لأنها ليست مجرد كلمة, وإنما هي نافذة يطل منها على حقيقته وسره.‏

الحياة عندما تكون خالية من الحب, فهي حياة خاملة وباردة, موحشة, وسخيفة, لا طعم لها ولا رائحة, خالية من البهجة, تنساب فيها الرغبات مضعضعة, ميتة من الملل والضجر والفراغ.‏

الحياة من غير الحب غربة, والشهوة بدون حب لا تسعفنا, ولا تطفىء عطشنا, ولا تعوضنا عن الحب.‏

إنها وسيلة للهروب فقط, نبدد فيها نشاطنا ونتخلص منه, إنها مثل الخمر والمخدرات والقمار وسيلة للاغماء والاعياء والبلادة.‏

من هنا, الحب الذي هو أعمق من كل حب لا يفجره القلب إلا بالتصوف والايمان.. وما حب الرجل للمرأة.. وما حب الإنسان للفن.. وما حب الإنسان للجمال, إلا الدليل الخفي الذي يقودنا إلى المحبوب الوحيد الذي يستحق الحب.‏

مرة بعد مرة, يكتشف المرء أن حياته لا تملك وجوداً حقيقياً, فالوردة تذبل, والشمس تغرب, والمرأة تشيخ.. والجديد في الفن يبلى.‏

والحب العظيم أكبر من أن تستوعبه ذراعان, أو أجمل غرفة نوم, وأحدث سيارة, إن هذا الحب هو الذي يقف على عتبة المجردات.. هو اللامحدود في مقابل المحدود..‏

إنه حب يعبر به الغايات المحدودة ويتجاوزها إلى قيم الفن والجمال والخير.. إن العاشق الحقيقي يصبح خيّراً مع الناس, يحبهم, ويساعدهم.. لأن الحب يرقق مشاعره كما يرقق العجان قطعة العجين لتصبح رغيفاً مشتهى.‏

الحب يجعل العاشق يصل إلى حقيقة نفسه, وتخرج منه الامكانيات المختبئة في الأعماق فينتج ويصبح فاعلاً في المجتمع, والعاشق يرى نفسه كإرادة هائلة تتخبط في بنطال ضيق من الجلد واللحم لا يسمح له إلا بالسير البطيء خطوة خطوة.. والحياة, بالتقسيط لحظة بعد لحظة! إن العاشق يعرف ما يخفي قلبه. والمعشوقة تدرك بحدسها ماذا في هذا القلب. فيولد الحب بصحة جيدة متورد الوجنتين وقابل للحياة.‏

وعندما يزداد حب العاشق عمقاً, يصبح عبادة وصلاة. ويدرك أنه أصبح يعرف نفسه حق المعرفة. فبعد كل ماعاناه من عذاب واحباط وتخبط. أصبحت تلك هي المؤشرات التي دلته. بكل ذكاء على حقيقة الوجود. لأن الحب هو حقيقة الوجود. فالحب بوصلة نحو النور, ودليل العاشق في بحر الظلمات.‏

إن الحب بمحتواه زمني وأبدي في الوقت نفسه. وهو, بوجوده يشرح للعاشق التراكيب المعقدة والمتناقضة, فهو يصهر الحديد ويسوي الجبال بالأرض ويشق الانفاق, لأنه كامن في هذا القلب, هذا الحجم الصغير في صدر العاشق.‏

هلامي من اللحم والدم, وهذا القلب عندما يتنعم بالحب الأصيل يرقص بالصحة والعافية, وهو يبدو ضعيفاً قليل الحيلة, ولكنه في الواقع عندما يخفق بالحب يتغير كل شيء, ليس فيه, بل في العالم.‏

وإذ يبدو في التشريح مادة تقبل الوزن والقياس وتخضع للزمن. ولكن شعوره يكشف عن مادة أخرى وزمن آخر يعيش فيه غير زمن الساعات والدقائق. ويتعمق شعوره في لحظات الحب والالهام والتصوف.. الحب له أفق غير زمني. لحظاته أبدية ملأى. لا تنقضي مثل اللحظات المحسوبة برمتها. إنما تظل شاخصة في الشعور ومالئة للوجدان.‏

ويمشي العاشق على الحجر ولا يحترق, يمشي على سطح البحر ولا يغرق, ينشغل دائماً بسعادة من يحب, ويصبح لا يليق به إلا الحب من أطراف الدنيا, ينجو من الخراب والقتل, لأنه محصن بابتسامتها, وهمسها الشفيف, إنه عفوي الكلام,يكره التنميق المزيف, ويختصر كل أيامه حتى يأتي إليها نقياً طاهر الروح والنفس.‏

والحبيبة, كما ذكر التيجاني: (هي أرق من الهوى, وأطيب من الماء وأحسن من النعماء, وأبعد من السماء) إذ يجب على الحبيبة أن تكون عصية حتى يشتد الحب.‏

قيل لأعرابية: اتحسنين صفة النساء الحبيبات?‏

قالت: نعم‏

قيل لها: صفي لنا امرأة كاملة. فقالت:‏

إذا سحرت عيناها, وسهل خداها, ونهد ثدياها, ولطفت كفاها, وأفعم ساعداها,وعظم وركاها, والتفت فخذاها, وجدل ساقاها, فتلك هناء النفس ومناها.‏

لكن الحب عندما يجيء, لا تهمه هذه الصفات, فرب امرأة لا تملك منها شيئاً, عشقها رجال عديدون, وأحبها من أحب, والسر ليس في الجمال, والشكل الخارجي.. بل في أعماق النفس وعذوبة اللسان, والذكاء.. الحب يتجاوز المواصفات الجاهزة, إنه يندلع فجأة كوهج, ولا يعرف العاشق من أين انطلقت الشرارة.. أليس كذلك يا صديقي اسكندر لوقا?‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية