|
شؤون سياسية إلى تجاوزها الأسباب المباشرة والمطالب العفوية، وصولاً إلى طرحها مطالب تعكس مواقف الشارع من سياسات حزب العدالة والتنمية الداخلية والخارجية، وبخاصة الإقليمية منها أيضاً. وتعكس تطورات الأيام القليلة الماضية، التي شهدتها حركة الاحتجاجات، ازدياد حركة المحتجين واتساع الهوة بين شعاراتهم ومطالبهم المباشرة والسياسية من جهة، وبين محاولات رموز من حكومة حزب العدالة والتنمية اعتماد الحوار ومحاولات احتوائها و “ضبضبتها” من جهة ثانية. صحيح أن قرارات حكومة أردوغان تغيير معالم حديقة “جيزي” في ساحة “تقسيم” في استنطبول، من خلال إقامة مركز تجاري وثكنة عسكرية ذات طابع عثماني وجامع على حساب هدم مركز أتاتورك الثقافي، قد أشعل فتيل التظاهرات في ميدان “تقسيم”، إلا أن هذه القرارات الأردوغانية، مثلت عملياً “القشة التي قصمت ظهر البعير” من خلال الحشود الشعبية، ذات الاتجاهات والآراء المختلفة والمتوافقة على رحيل حكومة أردوغان، التي احتلت ساحة “تقسيم” أولاً، وانتقالها إلى المدن الأخرى أنقرة – أزمير.. الخ ثانياً، وصولاً إلى رفعها مطالب اقتصادية – سياسية على أهميتها ومدلولاتها ثالثاً. فضلاً عن الطابع القمعي الوحشي الذي مارسته أجهزة أمن وشرطة حكومة أردوغان ضد المحتجين وتداعياتها أيضاً. هذه الاحتجاجات التي أودت، حتى تاريخه، بحياة العديد من الأشخاص وجرح الآلاف منهم (يشير المراقبون إلى أكثر من 4500 جريح)، واعتقال المئات، واضطرار أجهزة القمع التركية إلى الانسحاب تكتيكياً من العديد من مراكز الاحتجاج، تزامنت مع رفع المحتجين سقف شعاراتهم من القضايا الحياتية المباشرة، إلى طرح المطالب الحقيقية للشعب التركي، بتركيبته الديمغرافية المتشابكة والفريدة وتبعاتها. وإذ أظهرت أيام الاحتجاجات الشعبية القليلة مسألتي اتساع حركة الاحتجاجات وانتظامها التدريجي وانتقالها من حالة التعبير الشعبي العفوي حول مطالب معينة، إلى شعارات ومواقف وطنية عامة، كذلك تباين مواقف أطراف حكم حزب العدالة والتنمية من اتهام أردوغان المحتجين ووصفهم باللصوص والمخبرين والمأجورين للخارج، إلى محاولة الرئيس عبد الله غل، ونائب رئيس حكومة أردوغان بولنت أرنيتش اعتماد لهجة تصالحية في التعامل مع المتظاهرين، على أهميته، فإن تطورات الأوضاع الاحتجاجية، كذلك المواقف الحكومية، تشير إلى طبيعة الوضع المأزوم تركياً، وصعوبة حله إرادوياً، وعبر قرارات ووعد حكومية أيضاً. تشهد تركيا، ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، حراكاً داخلياً يتلخص في محاولة حزب أردوغان الإمساك بمقاليد الحكم كافة، وتبعاته على مفاصل الحياة التركية الشعبية والحكومية. إذ تواصل حكومة أردوغان قمعها للحركات السياسية الليبرالية والعلمانية، وتأجيل حلها الحقيقي العملي لإشكاليات التركيبة الديمغرافية، وبخاصة المسألة الكردية (رغم “التفاهم” الأخير مع زعيم حزب العمال الكردي p.k.k عبد الله أوجلان، المعتقل منذ أكثر من عقد، والمهدد بالفشل). كذلك الحالة الاقتصادية – الاجتماعية الشعبية المتردية، التي تمس الشعب التركي عموماً، وبسط سلطة أردوغان على المؤسسة العسكرية، وخاصة بعد إشاعة موضوع تنظيم “أرغنينكون” العسكري ومحاولته الانقلابية، وتالياً إزاحة المئات من كبار الضباط الأتراك، ومحاولة تدجين المؤسسة العسكرية (المدافعة تقليدياً عن العلمانية والأتاتوركية أيضاً). كذلك تشهد تركيا الأردوغانية إخفاقات إقليمية في سياق تعاطيها مع المسائل القفقاسية، ومع الجمهوريات الآسيوية (السوفييتية سابقاً)، والتي تمثل الفضاء السوفييتي لروسيا الاتحادية وأهميته وحساسيته، وازدادت حدة هذه الإخفاقات في المواقف الأردوغانية من “ثورات الربيع العربي” والأخونة” الجارية في بلدانها، (يعد حزب العدالة والتنمية الفرع التركي لحركة الإخوان المسلمين)، وبرزت أكثر وضوحاً في التعامل السلبي والانتهازي الفاقع مع الأزمة السورية، وتجلياته في الدعم اللوجيستي، والتدخل المباشر والعلني فيها، وصولاً إلى تصنيف تركيا بأنها قاعدة الارتكاز الاستراتيجية لـ “المعارضات” الخارجية السورية وللمجموعات والعصابات الإرهابية المسلحة، وبضمنها إفرازات القاعدة وفروعها. فضلاً عن إخفاقاتها القارية والدولية، وفي الصدارة منها مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وفشل حكومة أردوغان في “حلحلة” الشروط الأوروبية الاتحادية، التي يؤكد قادته صعوبة، إن لم يكن استحالة، انضمام تركيا للاتحاد ونيل عضويته، بل يعلنون رسمياً أن الحد الأقصى يتجلى في علاقة خاصة – مشروطة مع أنقرة. هذه المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية، التي عكست نمط ونهج حزب العدالة والتنمية وحكومته، تراكمت تدريجياً، وصولاً إلى بدء التظاهر والاحتجاج ضد سياساتها وتوجهاتها، وإلى الانضمام التدريجي لهذه الحركة الشعبية. (انضمت إليها مؤخراً أقوى نقابتين عماليتين “اتحاد نقابات القطاع العام” و “اتحاد نقابات العمال”)، مقابل الارتباك والتباين في مواقف رموز حكومة أردوغان، ما بين السعي إلى التهدئة والاحتواء (غل – أرنيتش)، وبين صلافة وتهديد (أردوغان)، الذي أكد على مواقفه (7 حزيران) إثر عودته من جولته المغاربية. في الوقت الذي أعلن فيه، أو اضطر لذلك، العديد من الزعماء “الغربيين” والأمريكيين، “المدافعين” عن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.. الخ، وبضمنهم نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن القلق المتزايد مما يجري في تركيا، ورفض القمع والدعوة إلى الحوار والحلول بين الحكومة والمحتجين ومعالجة مطالبهم. تركيا الأردوغانية، التي ساهمت بدور سلبي في “ثورات الربيع العربي” وأخونتها، وفي الازدواجية في التعامل مع العديد من الاحتجاجات العربية، وفي التدخل السافر في الأزمة السورية، تواجه ارتداءات هذه السياسة وانعكاساتها، وتزداد تعقيداً بسبب من كيفية تعاطيها الفعلي مع الصعوبات الداخلية والخارجية، التي أفرزها نهج أردوغان وحكومته، وأنها ليست بمنأى عن انعكاسات ما يجري في المنطقة وفي تركيا أولاً. وأن ما يجري في ساحة “تقسيم” ليس إلا مجرد بداية سيحدد مجراها واتجاهها وتطورات عناصر الأزمة التركية وطبيعة قواها وبرامجها. إذ طرحت الحركة الاحتجاجية في سياق تفاعلها اليومي القضايا الرمزية أولاً متمثلة بحديقة “جيزي” وتغيير معالم ساحة “تقسيم” إلى القمع والتجاهل والاسئثار الأردوغاني بالسلطة والعديد من القضايا الداخلية، وبضمنها مصالح شرائح وفئات وطبقات تعدت الـ 50 بالمئة من الشعب التركي، التي أيدت سابقاً شعارات أردوغان، مروراً بضرورة الانسحاب من مشاريع الحروب الإقليمية التي تتصل بتركيا، وبضمنها الشأن السوري. وهي مسائل تبقى محورية وقائمة وفاعلة بغض النظر عن مستقبل انتفاضة ساحة “تقسيم” على أهميتها ودلالاتها. - باحث في الشؤون الدولية |
|