محطـــات ثقـــافية
ملحق الثقافي 4/4/2006 فايز خضور جميل بثينة قد أوصل الشعر الغنائي العربي، إلى غاياته في العصر الأموي، وكان تلميذهُ«كثيِّر عزّه» راويةً له، وآخر راوية بين الشعراء، حسب المفهوم النقدي.. وقد قال المِسْوَرُ بن عبد الملك : «ماضرَّ من يروي شعر كُثيّر وجميل أن لاتكون عنده مغنيتان مطربتان.».
وحَسْبُ الجميل قوله: خليليَّ فيما عشتما، هل رأيتما، قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي..؟!. لقد ضاعت أشعار جميل ولم يبق منها إلا القليل المفرّق في مراجع الأدب أمثال الأغاني والأمالي ومنتهى الأرب وغيرها القليل القليل في المعاجم.. وتلك كانت قصة هذا العاشق باختصار يكاد يكون مجهرياً. فما هو شأننا مع خليفته «كثيّر بن عبد الرحمن».حكايةً وعشقاً وشعراً.؟!. لقد اتفق الرواة على أنه كان قصير القامة إلى حد يبعث على الاستهزاء ،وأنه كان أعور أيضاً.والقِصر والعَوَرُ عيبان شنيعان في البيئة التي تغلب عليها البداوة، ويقل فيها الأدب في مخاطبة الرجال. وتلك الآفة الخَلْقية كان لها تأثير في حياة كثيّر الذي شعر في قرارة نفسه أنه غير أهل للمصاولات في الميادين الغرامية، وهل يمكن أن يشعر بغير ذلك من النقص، وفي الميدان عمر، ومصعب، وجميل، الذين كانوا من الأعاجيب في نضارة الأجسام، ووضاءة الوجوه، وعذوبة الأرواح..؟! فالعرب المنتقلون من عصر الجاهلية كانوا لايزالون في دور الفحولة العارمة التي ترى الصبوات من أكرم شمائل الرجال. فماذا يصنع هذا «الكثيّر» وهو لن يظفر بحظه من العشق إلا إذا تصدّقت عليه إحدى الملاح..؟! فوضعه الجسدي المشوّه جعله «يفلسف» نظرية أخلاقية يقول بأن الجسم شيء والروح شيء آخر..!! وقد خدمه في التعويض عن «النقص» شعره وعشقه وعقيدته، حيث كان شيعياً مفرطاً في التشيع، مما جعله واحداً من أقطاب ذلك الزمان.ولقد أوذي بسبب عقيدته أشدَّ الإيذاء، فكان خلفاء بني أمية يصارحونه برأيهم فيه، ويواجهونه بالتندر والاستخفاف. ولكنه في نفسه وفي نفس النقاد من أعظم شعراء الإسلام. وقد كان يؤمن بالتناسخ فرى أن الأرواح تنتقل من صورة إلى صورة فتساير الوجود من زمن إلى أزمان. وكان يدين بالرجعة فيرى أن لاخوف من الموت.ومع ذلك فقد كانت همته فاترةً في مقارعة الأمويين، لكونه «صغيراً» قليل الحول فتأدب بأدب «التقيَّة». ولو أن كثيّراً أمدَّته همّةٌ عالية لاستطاع بقوة شعره وحدة ذكائه أن يساهم في إقامة صرح الشعر السياسي لذلك العهد.. يقول كتاب الأغاني: ومن العناصر الأساسية في تكوين شخصية كثيّر هو عنصر «العشق» وقد امتُحن بهوى «عَزَّةَ بنت جُميل». وقد قيل إنه كان في ذلك كاذباً ولم يكن بعاشق.!!. انسجاماً مع قوله : «صارجداً ما فرحتُ به رُبَّ جِدٍّ جرَّهُ اللعِبُ.» ولكن الحق أن كثيّراً أعزَّ الحبَّ أكرم الإعزاز، فقد صيّره من الشرائع، وتحدث عن آدابه أجمل الحديث، وسارت قصائده في الحب مسيرَ الأمثال.. وهذه واحدة من طرائف ذلك: يقال إن عزة دخلت على الخليفة عبد الملك بن مروان، وقد صارت عجوزاً فقال لها: أنتِ عزةُ كثيّر.؟!. فقالت: أنا عزةُ بنت جميل. قال: أنت التي يقول فيها: «لعَزَّةَ نارٌ ماتبوح كأنها إذا مارمقناها من البُعد كوكبُ.». فما الذي أعجبه منكِ.؟ فقالت له: أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيّروك خليفةً. فضحك عبد الملك حتى بدت له سِنٌّ سوداء كان يخفيها. فقالت: هذا الذي أردت أن أبديه.. فقال لها: هل تروين قول كثيّر فيك: «وقد زَعَمَتْ أني تغّرتُ بعدها ومن ذا الذي ياعزَّ لايتغيّرُ.؟!.» فقالت: لا، ولكني أروي قوله: كأني أنادي صخرة حين أعرضتْ، من الصُّم،لو تمشى بها العُصْمُ زَلَّتِ..» فأمر بها فأدخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت: أرأيت قول كثيّر: « قضى كلُّ ذي ديْنٍ فوفّى غريمه وعزة ممطولُ معنّى غريمُها.». ما هذا الذي ذكره.؟!. قالت: قبلةٌ وعدتُه إياها. فقالت: أنْجِزِيها وعَلَيَّ إثمُها..!!
|