|
ملحق الثقافي
وأحس أن فترات الضعف هي تلك التي يكون خوفي وضعفي في أوجهما. ولايتولّد الضعف فيّ إلا إذا كنت خائفاً. فالخوف هو الذي يحدث في أعماقي شعوراً بالضعف، ويجعلني أعبّر عن نفسي بالانفعال والعنف. ويعتبر العنف انفعالاً خفياً يقبع في أعماقي، وأعبر عنه، على نحو سلبي، في الدفاع والهجوم.ويندفع الانسان في تيار جارف من الانفعال، يعبر أصدق تعبير عن الخوف. وهكذا، يتمثل «مكانيزم» الدفاع في المقاومة السلبية التي تبديها الأنا المغلقة. يبدو لي أن التصرفات السلبية، التي تظهر في سلوكات الإنسان، تعود إلى الخوف والضعف والمقاومة السلبية. ولايمكن أن يصدر عنه تصرف شائن ما لم يكن خائفاً أو مندفعاً في تيار الانفعالات.. هذا التيار الذي هو انفعال الحس على نحو لاواعٍ. ويبدو الضعف الإنساني،وهو في قمة انفعاله، مظهراً للعنف السالب للقوة الحقيقية. العنف الذي يمتلك زمام الأمور، ويدفع بالإنسان في طريق تحف به مظاهر الذات المنفعلة بمقاومتها ورفضها. ولاشك أن انفعال الأنا، الذي يتسير بمفهوم العنف، يحمل في باطنه الرغبة في التسلط، والتملك بأنواعهما. وفي هذا السياق، تعتمد الأنا المنفعلة على التلقائية الغريزية التي تندفع، على نحو تناقض ملكة الوعي، إذ تتأثر بالعوامل الخارجية والأهواء الداخلية. ويعتبر هذا الدفاع، المعبّر عنه بفقدان الوعي والعقل، انفعالاً غريزياً تطغى فيه المقاومة المادية السالبة. ويرتبط هذا الانفعال بالعوامل التي تحقق استمراره. ويعتبر العنف العامل الرئيس الذي يحقق هذا الاستمرار. يشير طغيان الانفعال الى انتصار مؤقت يحرزه الإنسان. فقد يظن بأنه حقق رغباته المجسدة بكل غريزة تلقائية، وكل اندفاع لاعقلي يتفجر في داخله، وكل جموح رهيب، وكل ميل أو نزعة تخرج عن نطاق حرية الإرادة والاختيار. وفي هذه الحالة، يعتبر الإنسان نفسه منتصراً لأنه يُمسك بزمام الأمور على نحو عنف. إنها« القوة المادية» المنفعلة التي تعبر عن شدة المقاومة السالبة التي تبديها الأنا المغلقة.و يعتقد الإنسان أن «قوته المادية» هذه مظهر من مظاهر الوجود الحقيقي،ويجهل أن تحقيق هذه المقاومة التي تبديها الأنا المغلقة يعبر عن عنف.ويكون انتصار الإنسان تعبيراً عن المقاومة التي تبديها الذات المنفعلة بموضوعها. وتبلغ هذه الأنا الحد النهائي في الانفعال،والتملك ، والعنف. يمكنني أن أقول: إن هذه المقاومة- الدفاع، التي بلغت ذروة عنفها وانفعالها وتحقيق ميولها التلقائية اللاّواعية، لاتخرج عن نطاق القوة السلبية. وتشير هذه القوة السلبية الى الضعف الإنساني المتأصل في العنف. فالضعف هو التعبير عن الذات التي تقاوم الحقيقة الإنسانية والكونية باللجوء إلى مقومات الأنا التي تعبّر عن مقاومة الأنا للكيان.وفي هذه الحالة، يعتبر الإنسان نفسه منتصراً في تسلّطه، وفي تحكمه بغيره أو إذلاله، وفي عظمته الجوفاء المزيفة، وفي حصوله على المال الكثير. وفي تفوقه الناتج عن براعة الذكاء الحاذق، وفي قوته الوهمية وهو يحمل جهازاً أو أداة تمده بعنف التهديد، أو بمركز يحفزه بالتكبر والغطرسة.وهكذا، يطغى عليه العنف نتيجة لتزوده بالقوة المادية الغاشمة، واعتقاده بتملك الحقيقة المطلقة. تعتبر القوة المادية السلبية عاملاً كبيراً لتقويض الشخصية الإنسانية. فبواسطتها، يُذل الإنسان غيره، ويذل نفسه ويحتقر كيانه، فينحط الى مستوى الجهل. وإذ يجعل المال هدفاً له، يذل غيره عبر إذلاله لنفسه لأنه يتصرف على نحو من يمتلك ، في الواقع ، أداة العنف. وعندما يحمل سلاح، يحس بـ «قوة سلبية» ويزعم أنه يستطيع أن يقضي على خصمه بسهولة، ويحس بأنه متسلط لايقاوم: وعندما يشيّد وجوده على المركز الذي يتبوؤه، ويحس بالاعتزاز لأن «قوة» وضعت في يده. فهو ينفعل بالكبرياء،ويفتخر بأمجاد أجداده، وبمنزله الجميل وأثاثه الفخم، وأعماله المزدهرة، وذلك لأن«قوة» هذه الأشياء تفعل فيه لأنها عنف هو تعويض عن ضعف يعاني منه وخوف يقض مضجعه. لقد تزود بالأدوات والوسائل التي حرفت ضعفه الى عنف. هكذا، يحس الإنسان بهذه القوة السلبية القائمة في صلب العنف، فيعتز بها لأنها تساعده على استعمالها في أوجه مختلفة. فهو يبدو بمظهر المنتصر على كل شيء. فبواسطة المال، الذي يتجاوز حد الكفاية والمحافظة على الكرامة، يشبع شهواته ورغباته؛ إذن، هو قوي لأن« قوة» تعضده. وبواسطة الجاه يُخضع غيره، فيقف الى منصة عالية يتكلم بلغة البيان الساحر، ويصفق له الناس و«يبجلونه»، فيحس بقوة خارقة ويعتبر نفسه نصف إله، أو أكثر.والحق، أن الأباطرة القدامى والجدد لم يترددوا عن تأليه أنفسهم.وبالمثل، لا يتردد طغاة اليوم وحكام الحاضر أن يرفعوا من قيمة أنفسهم إذ يتخيلون بأنهم المختارون المصطفون لإنقاذ الشعوب بأعمالهم. هكذا، يتخيلون أن القوة التي يمتلكونها ترفعهم الى الأعلى. إنهم أمثلة مشوهة ومثل زائفة للحقيقة التي نسميها القوة.. إنهم أبناء الضعف المعوّض عنه بالعنف.. تنتج هذه القوة السلبية الزائفة عن الخوف والضعف، وذلك لأن الإنسان يلجأ الى المقاومة السالبة، التي تبديها الذات الغافلة عن حقيقتها على نحو دفاع، عندما يفشل في فهم حقيقة كيانه. وعندئذ يختلق عالماً جديداً من مقاومته، عالماً من الانفعال الدائم الذي يعتمد العنف سبيلاً للمعيشة، ويؤدي الى صراع داخلي واجتماعي مأساوي.ويضع الإنسان قواعد لعالمه هذا: قواعد تنافي تلك التي يعتمد عليها الكيان.وتعتمد الذات على القوة المادية والسلبية المعبّر عنها بالعنف. وعلى غير ذلك، يعتمد الكيان على القوة الحقيقية أي الإرادة التي تتألق في التكامل الداخلي والتوازن النفسي.. تعتمد الذات المغلقة على العنف، ويعتمد الكيان على اللاّعنف.. تعتمد الذات المنفعلة على الحقد والبغض، ويعتمد الكيان على التسامح والمحبة. تعتمد الذات المحتجزة في زنزانة الأنا على الرفض والتمرد، ويعتمد الكيان على الثورة التي تتجاوز التمرد الى الفعل في السكينة والهدوء.. تعتمد الذات التلقائية على الخوف، ويعتمد الكيان على الشجاعة المعنوية.. تعتمد الذات المنطوية في ثنايا الجهل على الضعف،ويعتمد الكيان على القوة الحقيقية التي تشير الى تكامل الوظائف النفسية وتوحيدها في شخصية إنسانية قوية. أعلم الآن أن العنف الذي يضفيه الانسان على ذاته ليس إلاّ الضعف والخوف والقلق والهروب من الحقيقة. لذا، تنعكس مفاهيمه وقيمه. فهو لايقوم بواجباته، بل يتهرب منها ويطالب بحقوقه المزعومة؛ ولايعتمد على ملكة العقل الواعي والوجدان، بل على الرغبات والانفعالات بأنواعها. وعندئذ، يسقط الانسان من فردوسه الوجداني الى جحيمه الحافل بأنواع الانفعالات.. ويحاول أن يحقق عالمه الجديد، فيعمل في تناقضاته، وتتغير هذه التناقضات. ويأتي إنسان ويمضي آخر. ويطبّق الواحد عكس ما يطبقه الآخر.. وتستمر المأساة في هذا الصراع الرهيب الذي لاينتهي إلا بنهاية الجهل. أتساءل الآن: كيف يمكن أن يكون الإنسان قوياً على نحو حقيقي؟ إن قوة الإنسان تكمن في شخصيته المتكاملة في توازن الوظائف النفسية وتوحيدها في «أنا مدركة»تعرف ذاتها،وتنفي الـ«أنا الأنانية» التي تنغلق على ذاتها. وتكمن هذه القوة أيضاً في عقله المتسامي الى عقل فوقي، وفي وجدانه، وينتصر الانسان وهو يسلك ويتصرف في وفاق مع احكام الوجدان. ويعتبر الانسان نفسه منتصراً في حالتين: أولاً، في الحالة الوجدانية، المعبرة عن مقاومة ايجابية، تجعله ينتصر على المقاومة السالبة المعبّر عنها بالشر. ثانياً، في حالة المقاومة السلبية التي تبديها الذات المنفعلة بموضوعها، ينتصر على الخير نفي للخير. في الحالة الوجدانية، ينتصر على الذات التي تعمل وفق عفوية الغريزة التي لاتعقل ما تفعل. وفي حالة المقاومة السلبية، تنتصر الذات على الوجدان على نحو نفي له. في الحالة الوجدانية، يؤدي واجبه على أفضل وجه،وفي المقاومة السالبة،يتهرب ويطالب بحقه. في الحالة الوجدانية، نجد الانسان العاقل، الهادىء والمطمئن،الذي يعمل في حقل الخير؛ وفي حالة المقاومة السلبية، نجد الانسان القلق،المنفعل، والمندفع الذي ينفي الخير، فيفعل الشر. وتعتبر الحالتان قويتين إذ يلجأ الإنسان الى القوة في كلتيهما. لكن مبدأ القوة، أو مفهومها، يختلف اختلافاً جذرياً. فهو، في الحالة الوجدانية، كائن قوي،مفكر عاقل، متماسك في داخله، متوازن في نفسه، ومحب للسكينة. وهو، في الحالة الثانية، أي المقاومة السلبية، فرد عنيف، منفعل، منقسم في داخله، يعاني من الاضطراب والفوضى، ومن خلل نفسي أفقده التوازن. يُعد التسلط ضعفاً لأنه نتاج الفردية الخاضعة للمقاومة السلبية. وتعد قوة المال ضعفاً لأن الاستزادة من المال وسيلة مشوهة للقوة الحقيقية، وتعويض زائف لقوة الحقيقة بالعنف الذي يزودني به المال الكثير. وتنتصر ذاتي، على نحو زائف، عندما أنفق فتقوى على نحو عنف، وتتعالى، على نحو كاذب، بالكبرياء التي لامبرر لها.وقوة الأداء التي استعملها، وهي عنف، تظهر ضعفي لأنني استعمل قوتها، أي عنفها، وليس قوتي بل عنفي. فأنا إذن لااعتمد قوتي النفسية المتكاملة في وظائفها، بل قوة الأشياء على نحو عنف، هو ضعف. إنني استعمل عنف المال، وعنف الجاه، وعنف الآلة، وعنف السلاح، وعنف الفردية، وذلك لأنني ضعيف أسعى الى التعويض عن الضعف، الذي يتملكني، بالعنف. وتتعلق ذاتي وترغب، بسبب ضعفها، بهذه المظاهر التي اختلقتها.إنها ابتدعت عالمها هذا لكي تسيطر وتضع انفعالاتها اللاواعية موضع التنفيذ. وتتحول قوى الإنسان البانية الى عنف مدمّر يعبّر عن الذات الفردية. تتخذ الذات من المادة وسيلة لكي تصل الى اهدافها عن طريق العنف. وعندما تقوى الذات تصبح عنيفة، وتضعف الارادة الواعية الحرة.إذن،تعتبر اعمالي،التي أعبر فيها عن عنف، ضعفاً لأن إرادتي الحرة والواعية قد تقلصت. وعندما تقوى شهواتي، التي أعبر فيها عن عنف، تضعف فضائلي. لذا، تعتبر عملية تحقيق الشهوة ضعفاً لأنني استعين بوسيلة اختلقتها لكي أحقق ذاتي المحتجزة في سجن الأنا.وتعتبر القوة المادية، التي هي عنف، لاإرادية لأنها مجردة من التفكير الواعي. بمَ أصف عنفي هذا إلا بصفة الضعف؟ إن عنفي هذا هو انحراف إرادتي الحرة والواعية.وهذا يعني أنه إرادتي المريضة، أو لا وعيي الغائب عن نطاق المعرفة والحقيقة، أي انتظار ذاتي على كياني، أي انتصار سلبية مادتي على إيجابية روحي. عندما تنتصر ذاتي، يضعف كياني، وتتحول القيم الروحية والمعنوية الى قيم مادية وكميّة، الأمر الذي يعني انبثاق الشر والقضاء على الحكمة والوعي. وهكذا، يموت في كياني الانسان الإلهي ويعيش الانسان الساقط. وبالتالي، يتأرجح بين الألوهة، ونفي الألوهة وانعدامها الذي هو إبليس.ويقترب من الألوهة كلما حقق كيانه. وعلى غير ذلك، يقترب من إبليس كلما حقق أناه. ولا يتعادل القطبان أو يلتقيان لأن الذات تتسلط على الروح وتحرفها الى تلقائية غريزية، تعمل فيها الدوافع التلقائية المجردة من التعقل والوعي. ولايبلغ الإنسان مستوى الاستقرار والطمأنينة والسكينة إلاّ في إقامة توازن يُختزل فيه السلب لصالح الإيجاب، وتتحقق الصحة النفسية. ولايعتبر هذا التوازن، أي الصحة النفسية، عملية نهائية لأن الانسان يتعرض لصعوبات جديدة وخطيرة يحتمل أن تعيقه عن تحقيق المزيد من التوازن والتكامل. |
|