تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إدواردو دو فيليبو والقضـــايا الاجتــــماعية المؤلف:د. غالــــب ســـمعان

ملحق الثقافي
4/4/2006
اهتم الكاتب المسرحي الإيطالي إدواردو دو فيليبو Eduardo de Filippo بالظواهر الاجتماعية الواقعية، وحاول إخراجها على المسرح، والبحث في أصولها، وتأثيراتها على الحياة العامة، والظواهر التي يعرض لها هذا الكاتب، تتصف في كثير من الأحيان، بالتردي على المستوى الأخلاقي، والانتشار الكبير لجملة من السوءات والعيوب، التي يمكن رصدها في السياق الاجتماعي،

وبالرغم من شيوعها وسيطرتها الكبيرة فإن الأمل باضمحلالها يظل قائما، مادام هناك أفراد يتطلعون إلى واقع أنبل، وأقدر على مواجهة صنوف متنوعة من الرغبات البشرية المتمحورة حول المطامع، والاندفاع وراء الإثراء المادي، وما يرافق ذلك من شره وإسراف، وعيوب اجتماعية كثيرة. ومن المسرحيات التي عالج فيها الكاتب جملة من هذه القضايا، المسرحية التي حملت عنوان (العقد)، والتي تجري أحداثها في الريف، بعيدا عن أجواء المدينة، ومع ذلك فإن أجواءها حافلة بأنواع من الميول البشرية المذمومة، بالإضافة إلى سيطرة الخرافات، والأمور المتصلة بالشعوذة والدجل، على القاطنين في تلك البيئة الريفية، المتواضعة من حيث ثقافة أبنائها، وقدرتهم على التبصر في الأحوال البشرية. وبشكل عام اعتاد الكثير من الأدباء تفضيل الريف على المدينة، وإضفاء ميزات إيجابية عليه، من مثل البراءة والنقاء لدى سكانه، فالشاعر الرومانتيكي الإنكليزي وليم وردث وورث (1770-1850) William Wordsworth آثر الإقامة في الريف، وأنشأ علاقة حميمية مع الطبيعة الخلابة فيه، ورفض الإقامة في المدينة الكبيرة التي اعتبرها آثمة، وليس كمثله الشاعر الرمزي الفرنسي شارل بودلير (1821-1867) Charles Baudelaire الذي اقتصرت حياته على الإقامة في المدينة، وعلى معاينة العيوب النفسية الأخلاقية، المتفشية في البيئة التي اختارها للإقامة والعيش، والتي ألمت به أيضا، ويبدو أن الكاتب الإيطالي إدواردو دو فيليبو قد تمكن من رصد عيوب اجتماعية خطيرة في الريف، فآثر أن يتصدى لتوصيفها وإخراجها على المسرح، وعرضها بصدق ونزاهة، وبصرف النظر عن حقائق الحياة الاجتماعية في كل من الريف والمدينة، فإن العيوب الموصوفة ذات طابع أخلاقي، فما من استقامة لدى النماذج البشرية التي يعرض لها المؤلف، وكلها تقريبا تتردى باتجاه الفساد، دون أن تكون مالكة للحس الأخلاقي الحقيقي الذي يمكنها من تجاوز عيوبها، أو من مجرد التأمل في واقعها. والبطل جيرونتا في هذه المسرحية ينتمي بالأصل إلى عائلة ميسورة، ومع ذلك فإنه لا يتلقى تعليما كافيا، وفي بداية أمره مع الحياة اعتاد التعامل مع الآخرين بطيبة وثقة مطلقة، وما لبث أن تعرض للاحتيال، وفقد أمواله، وأكثر من هذا فإن أخوته ناصبوه العداء، واستولوا على ممتلكات أخرى له، وأخيرا فرت زوجته التي انتشلها من الفقر والحرمان، مع ابن أخيه الشاب، فبدت له الحياة مليئة بالخداع والمكر، وأضمر في نفسه الانتقام، وعندما بلغه نبأ وفاة أزيدورو أخيه بالتبني، حضر إلى المأتم وأطلق صيحة ألم عميق، طالبا من رفيقه الباقي له في هذا الدنيا، أن يعود إلى الحياة، وعلى إثر تلك الصيحة أفاق أزيدورو الذي كان في الواقع مغمى عليه، غير أن الحاضرين ظنوا أن جيرونتا اجترح معجزة، وتدريجيا استطاع بفضل دهائه وتمرسه في المكر، استعادة مكانته الاجتماعية، والحصول على مال كثير، فقد أشاع بين الناس أن عودة رفيقه إلى الحياة تمت بفضل دائرة المحبة التي التأمت حوله، وهكذا فإن كل من يرغب في العودة إلى الحياة بعد موته، يقدر على ذلك على أن يقوم بتوقيع عقد، ذي مضمون أخلاقي من الناحية الظاهرية، فإذا التأمت حوله دائرة المحبة فإنه لن يتردد في إعادته إلى الحياة، وبالنظر إلى التركة التي ينوي المتوفى تقسيمها بين الأقارب، فإنه سيكون بإمكانه اقتطاع قسم ما لنفسه، دون أن يتنبه لذلك أحد، فهناك جملة من الإجراءات القانونية، وهو يعرف كيفية التعامل معها بحذق ومهارة، وإن كان يصر على أن قيامه بإعادة الميت إلى الحياة إنما يتم دون أي مقابل، والواقع أنه واظب على القيام بهذا العمل، بالرغم من محاولة الجهات القانونية مراقبته، والاستماع إلى أقواله، على نحو متكرر. والهام هنا أن أداءه الحياتي انتقامي في جوهره، فلقد انتقل من مرحلة البراءة إلى مرحلة عانى فيها من الاعتداء على ممتلكاته، فاختبر الواقع وما فيه من عيوب وشرور، وقرر اكتساب الخبرة الكافية للتعامل مع الآخرين، بالأسلوب الذي عاملوه فيه، وظل على موقفه، ولم يفكر باستعادة براءته، وهو شأن على صلة وثيقة بالحياة النفسية الأخلاقية للإنسان. ومن الأدباء الذين توقفوا عنده الشاعر الإنكليزي الصوفي ما قبل الرومانتيكي وليم بليك (1757-1827) William Blake الذي تحدث في (أغاني البراءة والخبرة) عن مرحلة حياتية تتصف بالنقاء والطهارة، ومرحلة أخرى يعاين فيها المرء العيوب والشرور في داخل نفسه، أو في البيئة التي يحيا فيها، والتي تترك بصماتها على حياته النفسية الأخلاقية، ومرحلة أخيرة يعاود فيها الرجوع إلى البراءة المفقودة ليتحدى بها، ولتتوطد صلته بها أكثر مما كانت عليه في البدء. والنماذج البشرية التي يعرض لها الكاتب الإيطالي إدواردو دو فيليبو، باستثناء جيرونتا وأزيدورو، تتصف كلها تقريبا بالجشع والدناءة، والميول المادية العارمة، فعندما يموت جايتانو تروتشينا تواصل زوجته وابنه وابنته تناول الطعام دون اهتمام كبير به، وكذلك الحال مع قريبه جاكومينو تروتشينا، الذي يأمل في اقتطاع ثلث التركة لنفسه، وهو ما ينص عليه القانون وفق إرادة المتوفى، ولهذا السبب يحتدم الصراع بينه وبين الابن كارميلوتشو، الذي يهدد بقتله إذا ما رآه في الشارع، أما الزوجة فإنها تتحدث عن معاملته السيئة لها أثناء رحلة الحياة، وعن خياناته المتكررة، التي تركت تأثيرا سلبيا على علاقتهما، وجرحا نازفا وغير قابل للاندمال. ومن ناحية أخرى يعمد نابليوني، الذي اختط لنفسه نهجا حياتيا غير أخلاقي، إلى تكوين عائلة والزواج من أرملة مجرم، والاهتمام بأبنائه وبقريب له، كي يكون بإمكان جيرونتا إعادته إلى الحياة بعد التئام دائرة المحبة حوله. واللافت أن الخوف من الموت غير ناجم عن اعتقادات تتعلق بما بعده، بل هو مجرد خوف من الفناء، وانعدام القدرة على التمتع، والاندفاع وراء الملذات الدنيوية، الذي يعني من الناحية النفسية الأخلاقية، البقاء في حيز القوة الشهوانية، وعدم تجاوزها إلى مراتب إنسانية أكثر سموا، وفي هذا السياق ارتأى الفيلسوف ابن مسكويه (932-1030) في مؤلفه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) أن التوقف عن اقتراف الذنوب، وطلب المغفرة، ينبغي له أن يؤدي إلى زوال الخوف من الموت، والعذاب الذي ينتظر الآثمين بعده، باعتباره المسؤول عن هذه الظاهرة، بالإضافة إلى الخوف من الألم الذي يرافق الموت، وهو يقرر أن مفارقة النفس للبدن لا يترافق مع أي ألم، وبشكل عام يستعرض في مؤلفه العيوب الأخلاقية، وكيفيات التخلص منها. وليس كمثله تماما الشاعر المفكر أبو العلاء المعري (974-1058) الذي اعتقد أن الطبيعة البشرية فاسدة، وأن إصلاحها غير واقع في حدود الإمكان، فالإنسان وفقه، يندفع في حياته إلى القيام بأفعاله، تحت تأثير القوة الوحشية التي تحفزه من الداخل دائما، والقوة الخارجية التي يمثلها القضاء الجبار، والمعري يذهب إلى إقرار هذه الحقيقة بالرغم من اتصافه بالسمو النفسي الأخلاقي الرفيع: وجبلة الناس الفساد فضل من يسمو بحكمته إلى تهذيبها والمعروف أن الشاعر اليوناني القديم هيزيود Hesiod قد عاين طائفة من العيوب في عصره، وفي مؤلفه (الأعمال والأيام) يقدم نصائح أخلاقية، وفيها يدعو إلى الاستقامة، وينظر الواقع باعتباره مليئا بالسوءات، وفي مطلع حياته تعرض للاعتداء والظلم، فقد لجأ أخوه إلى رشوة القضاة، وحصل على النصيب الأكبر من تركة والده، وإن إنصرافه كشاعر إلى كتابة مؤلف متمحور حول العيوب الاجتماعية، والحض على الأخلاق القويمة، يقدم دليلا على أن أداءه الحياتي ظل ارتكاسيا، إلا أنه لم يترد باتجاه القيام بأفعال انتقامية غير أخلاقية، أي أن انتقامه اقتصر على التمسك بالأخلاق والدفاع عنها، وعندما لجأ إليه أخوه أخيرا، رفض طلبه ونصحه بأن يكدح وينصرف إلى العمل. وفيما يتعلق بالشراهة والنهم التي اتصفت بها طائفة كبيرة من المدعوين لحضور حفل زفاف نابليوني، يتضح من التوصيف الذي قدمه الكاتب، أنه سلوك يكاد يكون غريزيا، وغير قابل للتقويم الأخلاقي. وفي مؤلفه (الكوميديا الإلهية) يصف الشاعر الإيطالي دانتي اليجييري Dante Alighieri في الأنشودة السادسة من الجزء الأول "الجحيم" العذاب الذي يلقاه أولئك الذين ارتكبوا خطيئة الشراهة والنهم في الحياة الدنيا، حيث يلقى تشيربيروس الوحش ذا الرؤوس الثلاثة رمز الشره والنهم، بالإضافة إلى شبح تشاكو المواطن الفلورنسي الذي ارتكب هذه الخطيئة فتحتم عليه أن ينال العقاب، إلى جانب أشباهه، حيث يتساقط عليهم جميعا المطر والبرد والثلج باستمرار، ليغوصوا في الأوحال مرارا وتكرارا، وتشاكو يقرر أن العادلين في فلورنسا قلائل، وأن الغطرسة والجشع والحسد أدت كلها إلى غرقها في الويلات والحروب. واللافت هنا غياب التكوين الأخلاقي الفاعل لدى النماذج البشرية التي يذكرها إدواردو دو فيليبو دون إشارة منه إلى أية عقوبة تنتظرها في هذه الحياة أو في الآخرة، وهذه الظاهرة تعني أن إمكانية إصلاح الخطأ الأخلاقي غير قائمة، لأن ذلك يتطلب الانصراف عنه، والشعور بالأسف والتوبة والندم لاقترافه. ومما يقال عن القائد العسكري أتيلا (406-453) Attila الذي كان ملكا على قبائل الهون الهمجية أنه مات أثناء حفل زواجه، لعكوفه على التهام الطعام بشراهة ونهم كبيرين، الأمر الذي أدى إلى إصابته بالرعاف وموته، وهو القائد الشرس الذي اجتاح أراض واسعة في الإمبراطوريتين البيزنطية والرومانية، ونشر الخراب والدمار في كل مكان، وفي هذه الحالة يبدو الحس الأخلاقي في أدنى درجات نموه. وعندما أصر العالم الصوفي الفرنسي بليز باسكال (162301662) Blaise Pascal في "خواطره الأخلاقية" على وجود الخطيئة، وضرورة الانصراف إلى التطهر من خلال الأسف والتوبة والندم، فإن آراءه هذه دلت على نمو التكوين الأخلاقي نموا عظيما، وفي آخر مسرحية ألفها الكاتب النرويجي الواقعي هنريك إبسن (1828-1906) Henrik Ibsen والتي حملت عنوان (عندما نبعث نحن الموتى) تبدو هذه الظواهر الأخلاقية بارزة بقوة، فالكاتب يصف أولئك الذين يتجاوزن المعايير الأخلاقية الكامنة في قرارة نفوسهم، ولا يشعرون بالندم على ذنوبهم الأخلاقية، بأنهم موتى بالرغم من كونهم على قيد الحياة، ولن يجعلهم يشعرون أنهم أحياء بالفعل إلا تطهرهم التام من آثامهم. وإذا كانت النماذج البشرية في مسرحية (العقد) قد اقترفت آثاما متنوعة، فإن أفعالها لم تترافق مع شعور بالذنب أو بالندم، وهو ما يؤكد تراجع الحس الأخلاقي الذي تنطوي عليه إلى حدود غير مقبولة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية