|
ثقافـــــــة إلى جيل الريادة في هذا الأدب، أما جيل نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحّار وعلي أحمد باكثير وعبد الحليم عبد الله وأمين غراب ومحمود البدوي فيطلق عليه جيل الوسط، فماذا عن الجيل الذي يتوسط هذين الجيلين من حيث السنّ ومن ينتمي من الأدباء عُمريّاً إلى الفترة المذكورة نفسها وما سمات أدبهم؟! لقد مارس كُتّاب هذا الجيل المنوّه به أعلاه العديد من الأنواع والأجناس الأدبية وأفادوا في محاولاتهم الكتابية من الاتصال بالأدب الأوربي (بلُغَاته الأصلية أو المترجم منه إلى العربية) ومن التقنيات الجديدة المستحدثة آنذاك وسعوا إلى تفعيل «الأدب» ليتطوّر من النمطية إلى الإبداعية... إنهم جيل رائد تتلمذ عليه جيل أدباء الأربعينيات ونهلوا من مَعينه الفكري والفني، ويعتبر الأديب المصري والمؤرّخ الأدبي الدكتور حسين فوزي أن «محمد تيمور هو المؤسس الحقيقي للمدرسة الحديثة في الأدب المصري» كما اتفق النقّاد المتابعون لمسيرة هذه المدرسة ومناشطها على أنه هو «مُنشئ الأقصوصة المصرية ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة» بل إن بعضهم يعتبر قصته الشهيرة (في القطار) هي البداية الحقيقية للقصة القصيرة المصرية بل العربية. وفي هذا الصدد، يذكر المستشرق الألماني (أ – شادة) أن السنوات الثلاث التي أمضاها (محمد تيمور) في باريس [من عام ١٩١١- إلى عام ١٩١٤] حرَّضته على «إيجاد أدب حديث تنعكس فيه صورة الشعب المصري بجميع مظاهره». (٢) والآن من هو (محمد تيمور) وكيف قام بدوره في نشاط «المدرسة الحديثة» ونَقَلهُ بماهيّته من تصور ذهنيّ إلى عمل أدبي وإبداع فنّي؟.. تُخبرنا المصادرُ والمراجع المتعلقة بتحرّي الأجوبة عن التساؤلات السابقة أن كاتبنا الأديب هذا وُلد عام ١٨٩٢ وتوفي عام ١٩٢١، وأنه نشأ في أسرة مصرية عريقة ذات خلفية ثقافية قائمة على العناية بالآداب والعلوم الدينية والتراث العربي وفنون النثر والشعر. فأبوه أحمد تيمور باشا (١٨٧١ – ١٩٣٠) هو العلاّمة اللغويّ الضليع والمحقق الموسوعي المتمكن، أما هو فمن مؤسسي حركة الأدب القصصي الحديث في مصر... رحل في مطلع شبابه إلى برلين للتخّصص بالطب، فما طالت إقامته في جامعاتها، فهاجر إلى باريس لدراسة القانون، غير أن شغفه الشديد بالأدب والثقافة الغربية جعله يتجّه إلى التزود من نبع الثقافة الأوربية عموماً ومن الأدب الفرنسي خصوصاً، وكان لذلك أثر بارز في كتابة قصصه وعلى مسيرة حياته أيضاً... ثم عاد إلى دياره المصرية بعد ثلاث سنوات، أي عام ١٩٤١ مع اندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى. شكّل إنتاج محمد تيمور في القصة والمسرح والمقالة والشعر منظومة فكرية إبداعية متكاملة الآراء والروابط في محاولة جادة منه لتحديث النظرة الكلاسيكية القديمة لمعنى الأدب والاتجاه بها إلى مفهوم عصري متطور إضافة إلى وعيه بضرورة الاستفادة من نواتج مصطلح (نظرية الأدب) الذي كان، وما زال سائداً تداولُه في الآداب الأوربية إلى الآن والسعي إلى جعل مردوداته وآثاره الفعلية تنعكس على خريطة الأدب العربي في مصر آنذاك، وأعتقدُ أنّ ما سبق عرضه من مطامح أدبية للأديب الشاب محمد تيمور هو من جملة ما دفعه للمناداة بإرساء قواعد معاصرة أو مرتسمات جديدة لكتابة القصة القصيرة تستند على أسس فنية تراعي لزوم التجديد في الأدب القصصي المصري والتحامه بقضايا المجتمع والشعب والإنسان. من هنا يمكن أن نستنتج أن إبداعات محمد القصصية لم تكن وليدة محاكاة شكلية لأنماط الأدب الغربي كما تشرّبها أثناء وجوده في أوربا بل كانت وسيلة إبداعية لتوظيف تقنياتها المستحدثة في بلورة المضامين الاجتماعية التي تهمّ أبناء وطنه والمساهمة في العمل على تطورهم الشامل في جميع مناحي التقدم والرقي البشريّ. وعود على بدء نتابع فنقول: في مطلع القرن العشرين بلغ انتشار القصص الأوربية المترجمة إلى العربية مدىً بعيداً جعل مجموعة من الصحف والمجلات المصرية تتسابق إلى الحرص على تضمين دورياتها قصة قصيرة منقولة عن الأدب الفرنسي خاصة لقصاصي فرنسا الكبار ومشاهيرهم مثل (أناتول فرانس) و(فيكتور هيجو) بأقلام مترجمين مصريين أكفاء تلبية لطلب الجمهور ورغبة بالتواصل معه، وعلى الرغم من طغيان الأدب القصصي المترجم على سوق القراءة والقرّاء فقد وُجدَ ثمة عدد من الكتاب المحليين حاولوا خوض تجربة تأليف قصص عربية ومصرية متحررة من قيود النص الغربي وما يعتريه من محتويات دخيلة وغريبة على المجتمع العربي وتقاليد بيئاته وفي مقدمة من وضعوا (من المصريين) قصصاً نابعة من الحياة والواقع (حمدي حماد) و(مصطفى لطفي المنفلوطي) ويجمع أغلب النقاد والدارسين العرب على أنّ القصة القصيرة الفنية مضموناً وشكلاً لم تظهر إلا على يد الكاتب (محمد تيمور) في قصة قصيرة له نشرها عام ١٩١٧، عنوانها (في القطار) وتُعدّ أول قصة قصيرة فنية في الأدب العربي الحديث ويبرز فيها – مع القصص الست الأخرى التي جمعها كاتبها في كرّاسة وأسماها (ما تراه العيون) ولم تطبع إلا بعد وفاته – مدى تأثيره برائد فن كتابة القصة القصيرة الفرنسية (جي دي موباسان) ويبدو ذلك في جميع إنتاجه القصصي الواقعي النزعة والمستقى من روح الناس ونبض الحياة في القطر المصري الشقيق. (٣) أدرك القاص الرائد محمد تيمور بثقافته الاجتماعية المتنوعة وتجاربه المتأثرة بالمحيط الفلاحي أن الإقطاع هو العدو اللدود للعلم لذلك فهو يغلق نوافذ الوعي على الفلاح ويقف ضد تعلّمه ويشلّ لديه إرادة التحرر من الاستغلال والعبودية والتبعية والفقر والجهل وفي هذا السياق كتب أديبنا تيمور قصته الذائعة الصيت بين أوساط الأدبيّات النقدية والدراسية (في القطار) ومن سرده لبعض مجريات حوادثها ومحاوراتها يفضح العقلية المعادية للعلم في شخص رجل سليل الإقطاع يردّ بلهجة حادة وصوت مرتفع على جليس معه في (المقطورة) يناصر انتشار التعليم وافتتاح المدارس قائلاً له: «السوط... إن السوط لا يُكلف الحكومة شيئاً، أمّا التعليم فيتطلب أموالاً طائلة، ولا تَنسَ أن الفلاح لا يُذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد». ولأهمية هذه القصة، فإن مؤلفي الجزء الأول من كتاب (الأدب العربي الحديث) الذي كان مقرراً تدريسه من قبل وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية على طلبة الصف الثالث الثانوي اعتباراً من العام الدراسي (١٩٨٨-١٩٨٩) قد ضمّنوه مقطعاً منها لاستعماله كشاهد أدبي. (٤) برع محمد تيمور في مختلف الفنون الأدبية وأجاد فيها جميعاً وكان فضلاً عن ذلك شاعراً وجدانياً رقيقاً ولديه ديوان شعر عنوانه (وميض الروح)، وحينما شعر بدنو أجله وهو في ربيع العمر، رثى نفسه قائلاً: هيّئوا لي باطن الأرض قبراً ودعوني أنام تحت التراب في ظلام القبور راحةُ نفسي ومن النور شقوتي وعذابي وافته المنية في ٢٤ شباط عام ١٩٢١ عن عمر يناهز التاسعة والعشرين عاماً، تاركاً وراءه إرثاً فكرياً مُهماً وإنجازاً إبداعياً سبّاقاً في فترة لا تتخطى الثماني سنوات من عام ١٩١٣ إلى ١٩٢١. نُشرت مؤلفاته بعد مماته في ثلاثة مجلدات. كرّمته الحكومة المصرية وتخليداً لذكراه أنشأت (جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي العربي)، رحمه الله. |
|