|
ثقافة ولكنها مع كل هذه القدرات والطاقات تقف في بعض الأحيان والمواقف عاجزة عن التعبير، حين تجول في الخاطر أحياناً وفي بعض المواقف الخاصة إحساسات مرهفة، شاعرية من نوع لم يخامرك من قبل، وحين تشعر بشجون صاخبة متلاطمة غير عادية لم تعتريك من قبل. عندها فقط تعرف كم تتصاغر الكلمات وتضمر معانيها، ويبقى الإفصاح بها عن ذاك الشعور والإحساس صعباً عتياً. وهذا ماحصل معي تماماً حين وقفت أمام ضريح المرحوم د. معروف رزوق في قصره المنيف الذي ابتناه بما يشبه القلعة وعلى تلة مجاورة لقلعة شيزر التي أحبها وكتب عنه مؤلفه الشهير «تاريخ شيزر منذ القدم وأخبار من مر بها من البشر» وأهمية الأمر في أنه كيف أراد أن يعبر عن مدى حبه العظيم للوطن والتاريخ إذ أوصى هذا الباحث العلامة أن يُنقل جثمانه بعد موته من وطن الغربة أمريكا إلى وطنه الأصلي سورية ويُدفن في هذا المكان بالذات وليس في بلده «السقيلبية»، والرجل كان موهبة إبداعية نادرة، وقد استطاع أن يرسِّخ اسمه على خارطة التاريخ الإنساني والعلمي حيث كان أستاذاً في جراحة القلب والصدر في جامعة دالاس- أمريكا ومركز بيلور الطبي العالمي وكان صاحب نظريات في اختصاصه وله مساهمات في إدخال جراحة القلب إلى سورية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي وله مساهمات كبيرة في ذلك. كان رجل همة منذ طفولته، وعبقريته متفتحة مبكرة، فقد رفض أن يكون مجرد إنسان على هامش الحياة ومجرد رقم فكافح واجتهد حتى وصلت شهرته للعالمية، ولما كانت المهنة سواراً من ذهب، فكل الذهب الذي جناه من مهنته كان قد صرف بعضاً منه في أبحاثه وجزءاً آخر في مده يد العون لمحتاج، أو نفقة في سبيل الوصول لإبداع ومكتشف جديد. مادعاني لنبش ذكرى هذا المبدع وقد ارتحل منذ عدة سنوات خلت، هو أن ذكرى رحيله سوف تحل في الربع الثاني من العام القادم 2009م. هذا أولاً وأما الأمر الثاني الذي دعاني لذلك فهو قراءتي لخبر رحيل الأب بارتشيلو الذي اكتشف لوحة فسيفساء طيبة الإمام وكان له الفضل في إقامة متحفها، وقد أوصى هذا الأب أن ينقل جثمانه من وطنه الأصلي إيطاليا ليدفن في «مأدبا» في الأردن الشقيق حيث لوحات وأرضيات الفسيفساء التي عشقها وأحبها وليكون بجوارها. ومثل هذا الأب فعل من قبل البارون الألماني «فون أوبنهايم» الذي أمر في حياته أن ينقل جثمانه من وطنه في ألمانيا ليدفن في «تل حلف» ذاك الموقع الأثري في سورية الذي كان ينقب فيه وقد أمر أن يكتب على قبره: «هنا يرقد بحماية الرب رجل أحب العلم والشرق والبادية وتل حلف وهو البارون الذي أراد أن يبتعد عن العجرفة الأوروبية وأسلوب حياتها الأرستقراطي، وفضل عالم الكشف والمغامرة. ومثلهما أراد المرحوم د. رزوق أن يدفن على تلة مجاورة للتلة التي تتربع فوقها قلعة شيزر شامخة، فأضفى روحاً للمكان مع روح الزمان الذي يخيم عليه، وأراد في صورة لحده مع صورة قلعة شيزر أن يضيف إطرافاً تُستمد منه العبر، وتستبان منه ملامح العظمة، فأنت عندما ترى صورة القبر والقلعة تنسى نفسك، ويتهيج شعورك في وقفتك أمام الطبيعة الخلابة، والدنيا من حولك في ابتهال صامت، وأنت تسوح بناظريك على متاهات الأرض الخضراء والعاصي والجسر العتيق وقناطره، والجبال الخضر من بعيد تتطاول لتلثم خدود السماء في الأفق البعيد وفي جو يسوده دهرية صمت القلعة وصمت القبر وتشم عبق التاريخ، تتمنى عندها أن يهرب منك الزمان أو أن يتوقف كي تبقى في ذلك الحلم ولاتستفيق منه وتعود إلى لولبية الحياة وصخبها وإزعاجاتها وتعبها وشقائها. إنه منظر تطمئن فيه روحك، وتشعر كأن صمتاً في داخلك يريد أن يتكلم وشعوراً يتلاطم في داخلك لم يخترع له كلام لتستطيع أن تعبر عنه، وكم تتمنى أن تبقى هذه الومضات الروحية وتمسكها حتى لاتفر منك وتروح إلى مطاوي النسيان. لقد استطاع هذا الراقد في لحده إلى جانب قلعة شيزر أن يسجل أروع قصيدة في حب الوطن وترابه. إنه حقاً رجل يتحدث صمته في قبره والذي جعل منه صكاً يسجل فيه صدق الانتماء للوطن وترابه، وبرهن تماماً أن دمه الذي يجري في عروقه كان دماً أموياً يتمثل فيه دائماً أرواح وعظماء تاريخ أمته وهو في موطن الغربة. أولايستحق هذا الوطني المخلص المرحوم د. رزوق أن يخلَّد اسمه بإطلاقه اسماً على مدرسة أو شارع أو ساحة أو مشفى في بلده السقيلبية بعد كل عطائه للوطن والإنسانية والعلم؟ سؤال ينتظر الإجابة من مسؤولينا وكل معني بذلك وخاصة من السيد الرفيق أمين فرع حزب البعث العربي الاشتراكي المحب للثقافة. والسيد محافظ حماة الساهر أبداً على تنفيذ سياسة التطوير والتحديث في حماة مدينة العراقة والتاريخ. |
|