|
الملحق الثقافي عثر علماء الآثار في أراشيف دولة ماري، التي تقع في أراضي سورية الحديثة، على «رقم طينية»، وجدوا فيها مكتوباً أنه كانت هناك علاقات تجارية واسعة بين دولة ماري والتجار الفنيقيين. وكانت أهم مجالات الاتجار هو مجال تجارة أخشاب الأرز التي كانت متوفرة في جبال فينيقيا. نظم ملك ماري ياخدونيم «1825 ــ 1793 قبل الميلاد» مهنة تجارة الأخشاب، التي كان مصدرها شمال فينيقيا. أما بيع الأرز لدول أخرى، فكان قد جلب لتجار فينيقيا أرباحاً عالية. وحتى على سبيل المثال بغض النظر عن تلك الصعوبات التي كانت تعترض نقله إلى أشوريا، فإن الإتجار به ازدهر كثيراً. وكان يتم نقل الأرز إلى أشوريا عن طريق البر أو عبر الأنهار. وكان طول الطريق البري إلى أشوريا حوالي 600 كم. أما الطرق النهرية فكانت تستخدم نهر الفرات حتى مدينة بابل، بعدها يتم الانتقال لاستخدام نهر دجلة ومن دجلة يتم توزيعها على مدن أشوريا الرئيسة. وازدهرت تجارة الأخشاب بشكل خاص في عهد الملك الأشوري سرجون الثاني «722 ــ 705 قبل الميلاد».
أقنعت صعوبة نقل أشجار الأرز من فينيقيا ووعورة طرق نقله على التعامل معه بلطف واستخدامه في بناء المعابد الدينية وقصور الملوك وقبور الوجهاء. واستخدمت هذه الأخشاب في إيران ومصر وفي قبرص وغيرها من البلدان، وكانوا يعتبرونها سلعة تجارية أو كغنائم أثناء الحملات العسكرية. رأت المدن - الدول الفينيقية التجارة الدولية، كمصدر لا يقدر بثمن لنماء القوة الاقتصادية والثراء. لم تكن هنالك أية حاجة للقتال وهدر دماء شعوبها وشعوب الآخرين وتشكيل الجيوش وامتلاك الأسلحة الغالية الثمن للتجارة الدولية منها خاصة لا تحتاج إلى كل ذلك. والذي كانت تحتاجه هذه التجارة فقط هو الممارسة والمثابرة والاستمرارية والسعي وعندها ستصل الثروات إلى بيتك. تميز الفينيقيون بهذه الخصال وكانوا يمتلكون هذه الإمكانيات. وقبل كل شيء الأكثر روعة، هو الموقع الجغرافي المتميز لفينيقيا، الموانئ العميقة المحصنة، والمواد الأولية ــ كالصدف والقمح والعنب والزيتون ومختلف أنواع الأقمشة والأهم الناس الموهوبين والخبراء القادرين على صناعة بضائع رائعة بسبب معرفتهم العميقة لدقائق مهنتهم والبضائع التي يصنعونها. إلى جانب ذلك ما امتلكه الفينيقيون وغيرهم من شعوب بلدان سواحل البحر الأبيض المتوسط القديمة من بحر دافئ هادئ رقيق. وكان واجباً تعلم صناعة السفن وقيادتها وتوجيه مساراتها حسب الدلائل والعلامات الساحلية والنجوم. في البداية، أخذت السفن الفينيقية النمط المصري في بنائها، أما لاحقاً وعندما ظهر في فينيقيا «شعوب البحار» القادمة من بحر ايجه، بدأ الفينيقيون يبنون سفناً أكثر أماناً من تلك الأنماط المصرية. ترك الكاتب البلغاري المتجول أ. دريدجييف وصفاً رائعاً عن السفن الفينيقية وعن ظهور الملاحة البحرية عند الفينيقيين في كتابه «على طريق البحارة القدماء»، حيث كتب يقول إن تاريخ الأسطول الشراعي يذهب رويداً في القديم الشائب وأصبح له من العمر ما يزيد عن خمسة آلاف عام. وظهر هذا الأسطول، حسب ما تدعيه الأسطورة الفينيقية، على الشكل الآتي: «يقولون إنه في قديم الزمان بوغت إنسان كان يعيش على شاطئ لبنان الحالي بحريق نشب في الغابة مجهول السبب. حملت الرياح اللهب الناري وسارت به بسرعة عالية وعرى بطريقه الأشجار الضخمة. وصل الرعب إلى ذلك الإنسان: إذ وصل لهيب النيران إليه من جميع الاتجاهات، والبحر كان من ورائه. عندها قفز إلى البحر وصادف في البحر قطعة خشب محترقة، جلس عليها وأبحر مبتعداً عن الشاطئ الملتهب. وبهذا الشكل أنقذ نفسه من الحريق. سموا هذا الإنسان أوسوس، وحسب هذه الأسطورة أصبح أول بحار فينيقي. وبالنسبة للإنسان البدائي كان البحر عبارة عن حاجز غير متناه وينتهي عنده العالم. ومرت سنوات كثيرة وظهرت عبرها السفن وأصبحت هذه الفسحة المائية الشاسعة أكثر الطرق ملاءمة للتبادل التجاري والثقافي. والرمز في هذه الأسطورة الفينيقية بسيط جداً: إذ أقدم الإنسان على التطلع إلى البحر انطلاقاً من حاجته لذلك. والنضال من أجل البقاء دفعه إلى ركوب البحر. لكنه وجد الخبز وحده غير كاف للحياة.. في ذلك اليوم، عندما انقطع الإنسان لأول مرة عن الشاطئ وتوجه للتجول بالطرق البحرية الطويلة، كان مندهشاً مما كشفه أمامه من جمال يراه لأول مرة في ذلك العالم المجهول، الذي تبين أنه أكبر كثيراً من تلك الأرض المعروفة له. اكتشف الإنسان ذاته من جديد، وتسلح بقوة جديدة تختلف عن تلك، التي بواسطتها دخل صراعاً ضد حوادث الطبيعة الصدفية». «عالم الحضارات القديمة ـ إنه عالم مدهش، هذا ما قاله كاتبنا السابق الذكر. وأحياناً بلا إنصاف ودون نقاش نقدم على نفي إيجابياته وفضائله. وأثناء غوصنا في الزمن، تبين لنا أن هذا العالم ليس شبيهاً بالعوالم الأخرى. لكنه بأية حال عبارة عن عالم، نتواصل معه وأننا كبشر العصر الحالي لسنا سوى درجة من درجات تطور البشرية، ويربطنا بالناس الأقدمين سعي للبحث عن الأروع، ونشترك معهم بعدم الرضاء عن الذات ونحن نسعى لتحقيق أحلام مستقبل مشرق. يشهد التاريخ أن عالم الحضارات القديمة كعالمنا الحاضر تأسس على أسبقية العقل على الهرطقات والدوغما». أبحروا فقط نهاراً، وعادة ما كانت المسافة بين الموانئ تعادل المسافة التي يمكن للسفينة قطعها في نهار واحد. وكل مساء كانت السفينة تقف في ميناء رامية مرساتها أو في خليج هادئ، أو كانت تسحب إلى الشاطئ. وإذا بدأت العاصفة، يقوم الشاطئ بمهمة الملجأ للسفن. يحتوي البحر الأبيض المتوسط على جزر عديدة ولهذا لم يكن صعباً الإبحار من جزيرة إلى أخرى. يرى العلماء أن أول السفن التي ظهرت في الكون كانت مصرية قديمة واحتل مكانها في السيطرة على البحر الفينيقيون وأصبحوا «سادة البحر». |
|