|
الملحق الثقافي George Sarton، مؤسس حقل جديد في تاريخ العلوم، يُطلق على العلوم تسمية الحقل «التراكمي والتقدمي» الوحيد. قديماً، اعتقد الناس أن الظواهر المخيفة وغير المتوقعة كالرعد والبرق يجب أن تحدث بفعل غضب الله. ولكن مع بزوغ الحضارة اليونانية جاءت بداية العلم الحقيقي: هندسة اقليدس، توافقيات فيثاغورس، بايولوجيا أرسطو، إحصائيات أرخميدس وغيرها. بعدها مضت ما يقارب الفي سنة تفصل بين ذلك العصر الذهبي والعصر الذي تلاه، ولكن منذ الثورة العلمية بدأ التقدم يخطو دائماً نحو الامام دون توقف. نيوتن وحّد السماوات والارض من خلال الجاذبية، بنيامين فراكلن وحّدها من خلال الكهربائية، دارون نسج كل أنظمة الحياة إلى بعضها بخيط الاختيار الطبيعي. آينشتاين اكتشف أن الطاقة = الكتلة X مربع سرعة الضوء. حالياً يسعى الفيزيائيون وبلا هوادة لإيجاد نظرية لكل شيء، أو معادلة مبسطة تضم الكون كله بنفس بساطة معادلة انشتاين.
الفنون من جهتها لا تشبه العلوم في هذه الطريقة، ولا تسعى لذلك. «بيتهوفن لم يتخط باخ كما تخطى انشتاين نيوتن حسب قول البايولوجي فرانكوس جاكوب. بل أن الفنون تعرض وجهات نظر غزيرة، تعكس خصوصية صناعها. وهي يمكنها جميعا أن تعبّر عن الحقيقة لكنها مع ذلك مختلفة جداً ولا يمكن قياسها. الفلسفة تقع في مكان ما بين الفنون والعلوم. فمن جهة، أنها تعطي رؤىً متميزة شديدة التباين لدرجة لا تسمح بالمقارنة : مثل هيوم وهسرل، أو سبينوزا وسارتر. فمن غير المدهش إذا لو وجدنا صعوبة في طرح السؤال»هل الفلسفة تقدمية؟». ومن جهة أخرى، الفلسفة، تشبه العلوم من حيث كونها، بحثاً عن الحقيقة، وهي أيضاً تتطلب منا أن نفحص نظرياتنا مقابل ما نلاحظه في العالم الخارجي، أو العالم الداخلي «الانطباع الحسي، الألم وغير ذلك». قلة من الفلاسفة مثل هيجل وهربرت سبنسر يؤمنون بأن كل شيء تقدمي. ولكن حتى المتشائمين الاختزاليين وما بعد الحداثويين لا يؤيدون فكرة التقدم، وان هناك القليل جدا منْ يعتقد أن تاريخ الفلسفة يكشف عن تقدم كلي يسير نحو الأفضل ربما قرن بعد قرن أن لم يكن يوماً بعد يوم. فكرة أن فلسفة wittgenstein تفوقت على أفلاطون تبدو سخيفة. الاجابة على سؤالنا هل الفلسفة تقدمية، هي بالتأكيد نعم، وأحياناً التقدم يكون تراكمياً تماما كما وصف Sarton تقدم العلم. اننا ربما نرى تقدما اكبر لو أن الفلاسفة أعطوا مزيداً من التفكير للسؤال حول ما إذا كان ما يكتبونه حقا يدفع الفلسفة إلى الامام ام انه مجرد حشو تراكمي.»هل أن ما اقوم به يستحق فعلا الجهد؟ نعم، ولكن فقط عندما يُلقى عليه الضوء من الأعلى... واذا لم يكن هناك ضوء علوي، فأنا سوف لن أكون أكثر من مجرد ذكي».»Wittgenstein، الثقافة والقيم»
يجب التأكيد على أن العلوم لها نصيبها من التقدم الزائف والوقوع في طرق مسدودة، اشار» ديفد هل» فيلسوف البايولوجي إلى أن معظم البحوث العلمية «تنتهي بالفشل أو أنها تقود إلى لاشيء». وان العلم هش وسريع التأثر بالعوامل غير الملائمة لمواصلة البحث عن الحقيقة شأنه شأن أي من الحقول الأخرى. لعدة سنوات كانت البايولوجيا السوفيتية مقيّدة من جانب الدولة بفكرة «ليسنكو» عن وراثة الخصائص المكتسبة. في الجزء الاكبر من القرن العشرين، نجح الوضعيون في تهميش جميع المواضيع الفلسفية – الأخلاق، الميتافيزيقا، الجماليات – باعتبارها بلا معنى لأنها ليست علمية. بالطبع نحن لسنا متحررين من مختلف أشكال المقاومة العادية للأفكار الجديدة من جانب أولئك الذين لا يعرفون أي شيء أفضل، أو أولئك الذين يعرفون الأفضل. معظم الناس ربما هم على إطلاع بمشاكل غاليلو مع الكنيسة. لكننا لم نسمع كثيرا عن صراعاته المبكرة مع السلطة والتي ليس لها علاقة بالدين حسبما يذكر Stillman Drake. أنها مشاكل حصلت بتحريض من تدريسيين في جامعة بيزا والذين شعروا بالتهديد من أفكار غاليلو الجديدة. وعلى الرغم من وجود بعض الحالات المعاكسة، غير أن التقدم العلمي ومنذ عام 1600 لا يمكن انكاره. نحن عادة نعزو هذا إلى اكتشاف واختراع أشياء جديدة، لكن هناك ما يحمل نفس الاهمية وهو القدرة على فهم الأشياء القديمة بطرق جديدة. الأرسطيون نظروا إلى الجسم المتأرجح ورأوا شيئاً ما يسقط بصعوبة، غاليلو نظر إلى تلك الأشياء ورأى بندولاً. هذا المظهر للعلم، الذي هو تفسيري وتوضيحي، أحياناً يحمل تشابهاً مع التحليل الفلسفي. علماء الكون، مثلاً، يفهمون المجرة كـ «جسيمات تتشكل من سوائل تامة ودائمة «، الاقتصاديون يعرّفون «السلعة» كمجموعة من الوحدات تشكل بديلاً تاماً للمستهلك».
البعض، مثل الوضعيين، وW.V.O Quine في ورقته الشهيرة» مبدأان للتجريبية» يختزل الفروق بين العلم والفلسفة. آخرون، مثل وتجنستن وماكس بلاك، يؤكدون على ذلك. حيث يشير بلاك، أن الحقائق هي أشياء يتفق عليها الفلاسفة بشكل عام ولا يختلفون فيها مهنياً «. يقول وتجنستون» أنا لا اهتم ببناء بناية بقدر ما لدي رؤية واضحة عن اسس بناية ممكنة. لذا أنا لا اسعى لنفس الهدف الذي لدى العلماء وان طريقتي في التفكير تختلف عنهم.»وتجنستون، الثقافة والقيمة». اذا كانت الفلسفة تشبه العلم في بعض النواحي وليست كلها، سنتوقع أن التقدم في الفلسفة يشبه أحياناً ذلك الذي في العلوم، وأحياناً لا يشبهه. ذلك التوقع يتضح في الامثلة الثلاثة التالية. التقدم كتحطيم destruction الفيلسوف «كارل بوبر» انتقد الرؤية الايجابية للطريقة العلمية positivist view والتي اعتبرت خاصية التكذيب falsifiability خاصية ايجابية وأحياناً ضرورية للفرضية العلمية أو النظرية، واستنتج أن الفرضية أو النظرية تتحدث فقط عن الشيء الممكن تكذيبه falsifiable، أن الشيء الممكن تكذيبه عادة يعني شيء ممكن اختباره. إذا كان الشيء لا يمكن تكذيبه عندئذ هو غير علمي. ولكن حالة علمي أو ممكن تكذيبه لا تذكر شيئاً عن الحقيقة أو الصلاحية أو الصواب. فمثلاً الادّعاء بأن «الغروب جميل» هو ادّعاء لا يمكن تكذيبه. ويذكر إذا كانت هناك أعداد كبيرة من البط الابيض فإن مجرد وجود بطة واحدة سوداء يكفي لإبطال «قانون» جميع البط أبيض اللون. وفي مجال الأعمال والعلاقات الشخصية، لا يُعتبر النقد المدمر نافعاً. ولكن في العلوم والفلسفة، هناك أشياء قليلة تنال تقديراً أكثر من الحالات التي يتم بها نفي ما هو مفترض ومتوقع وفق القوانين والتعريفات. Edmund Gettier»» شيد سمعته حين كتب ورقة لا تزيد عن ثلاث صفحات، طرح فيها مثالاً مدمراً مضاداً للتعريف التقليدي للمعرفة الذي ورد في حوارات أفلاطون باعتبارها «عقيدة حقيقية وتفسير» أو تبرير عقيدة حقيقية. حالات جيتر تثق فقط بالافتراض غير الملتبس بأننا إذا كنا نمتلك التبرير للاعتقاد في p، ونحن نعرف أن p ينطوي على q، وكنا نؤمن في q طبقا لذلك، عندئذ سيكون لدينا التبرير للاعتقاد في q. في القانون، إثبات»ما وراء الشك المقبول» يقصر عن إثبات الضلال، وكذلك حالات Gettier تعلمنا أن العقيدة الحقيقية المبررة تقصر عن المعرفة الحقيقية. امكانية تعديل التعريف الأفلاطوني هي فقيرة أو منعدمة. مع ذلك نحن نعتبره مكسباً فقط لكي نبيّن عجز الصيغة الأفلاطونية القديمة.
التقدم كإيضاح Clarification منذ زمن سقراط وطريقته، كانت مهمة توضيح الأفكار هي الهدف الرئيسي للفلسفة، السلوك النفعي في الأخلاق، يعود في الأساس إلى «جيرمي بنهام» و»جيمس» و»جون ستيوارت مل»، وهو في تضاد مع الحدس الأخلاقي الذي نعتبره أساسيا. كان السلوك الأخلاقي السائد في السابق هو السلوك النفعي وفق نظرية المنفعة في الأخلاق التي تؤكد بأن السلوك الصحيح أخلاقياً هو الذي يُنتج اعظم السعادة. ولكن في عام 1955 استخدم «John Rawls» قاعدة المنفعة التي تؤكد أن الفعل الصحيح أخلاقياً هو الذي يتطابق مع القاعدة الأخلاقية التي يؤدي الامتثال العام لها لخلق اعظم السعادة، وبذلك يمكن تجنب المشاكل الملازمة لسلوك المنفعة السابق. جادل «رولس» بأن القواعد ليست دائماً تشكل قيوداً خارجية على افعالنا. ولكي يوضح هذا عرض «رولس» نوعين من القواعد: الأول القواعد الموجزة «summary rules « والثاني قواعد الممارسة «practise rules». القواعد الموجزة هي قواعد بحكم الخبرة والتجربة، تؤكد أن النتائج الجيدة أو السيئة تأتي أساساً من أنواع معينة لأفعالنا، فمثلاً، التناول المفرط للكحول يقود إلى مشاكل صحية. القواعد الموجزة تشير إلى أننا لا يجب أن نقوم بأشياء معينة لأنها تقود إلى نتائج سيئة، ويجب أن نعمل أشياء معينة لأنها تقود إلى نتائج حسنة. هذه الحقائق تُعرف من خلال التجارب الماضية، وهي تُتبع للوصول إلى نتائج مرغوبة. ولكن إذا كانت الظروف استثنائية فإن القواعد قد لا تنفع وبالإمكان انتهاكها لأن الظرف الاستثنائي يتطلب فعلاً استثنائياً. اما بالنسبة لقواعد الممارسة فهي تختلف عن الأولى، فهي تعرّف نوع الفعل، حينما لا تُتّبع القاعدة لن تكون هناك اية فعالية، وهي ليس فيها اية استثناءات والمثال في هذا ممارسة لعبة الشطرنج.. أن مزايا النوع الأول من القواعد هو انه يعرض ملخصات للقرارات السابقة، مستغنياً عن الحاجة للحكم على كل حالة من البداية. اما العيوب هي انه يرتكز مباشرة على مبدأ المنفعة. في مفهوم الخلاصة، القرارات التي تتم في حالات معينة هي من حيث المنطق سابقة للقواعد». اما مفهوم الممارسة، فهو عكس ذلك. قواعد الممارسة هي مُحددة لأنواع معينة من الفعالية، مثل لعبة الكركت، أو حالات الوعد والعقاب. ولهذا السبب، لا يستطيع المرء ببساطة أن يحكم على ما يبدو الأفضل في حالة محددة ويتصرف طبقا لذلك، هو لا يستطيع تجاوز سلطة القاعدة الأخلاقية، أي اللجوء مباشرة لمبدأ المنفعة. الافعال المحددة هي معرضة هيراركياً لقواعد الممارسة التي تحكم تلك الافعال، وهذه القواعد ذاتها وليس الافعال المحددة هي التي تُحكم بمبدأ المنفعة. ان التمييز الذي عرضه رولس هو ملائم لمثل هذه القضايا وهو يشبه التمييز بين التعميم العرضي والتعميم المشابه للقانون، رغم انه لم يقم بتوسيع نطاق التنقيب من الأسئلة ما بعد الأخلاقية إلى الأسئلة ما بعد العلمية. وفقاً لما جاء في توضيحاته، أن قاعدة المنفعة تصبح أكثر تميّزاً عن فعل المنفعة وتكتسب مصداقيتها واتزانها في العملية. بالنسبة للنفعيين، ربما يرون في تمييز رولس شيئاً حسناً وسيئاً في آن واحد، ولكن بالنسبة للفلسفة، فهو يبدو مثالاً واضحاً ومتميزاً للتقدم. التقدم كشك كيف نتأكد أن التاريخ لم يبدأ قبل خمسة دقائق، وهو مجهز بذاكرات وسجلات كاملة؟ كيف نعرف أن العالم الخارجي ليس إلا ضلالا من عمل الشيطان ليخدعنا؟ هذه الأسئلة يطرحها فقط الفلاسفة، لأن لا فرق لديهم في النوايا والاهداف مهما كانت. فاذا لم يكن هناك عالم خارجي، فنحن بدلا من أن ندفع فواتيرنا، سوف نتظاهر بدفع ما يظهر انه فواتير يتوجب دفعها، وكيف يمكن توضيح الفرق بين الحالتين حتى من حيث المبدأ؟ الأسئلة المشككة، لها فعلا فائدة تطبيقية، كونها تبيّن كما اوضح لنا جيتر في مثاله اننا لا نعرف بقدر ما نظن. شكوك هيوم بيّنت له الحاجة إلى «الحذر والتواضع»، وذلك بوضع اداة الشرط «اذا» قبل ادعاءاتنا، مثل «إذاً أنا أدرك ما تقصد، إذا كان هذا المصدر موثوق به، إذا كان هناك عالم خارجي». شكوك هيوم المخففة حولت الادعاءات القاطعة إلى شروط ضمنية. اذا كنا قادرين فقط على اكتساب عادة التواضع الإنساني، فإن خطابنا سيكون أكثر مدنية، والعالم سيصبح أكثر أماناً. وسوف لن يكلفنا شيئاً، ما عدى الافتراض المسبق بأننا نعرف أكثر مما نعمل. إنه درس بسيط، وحقا قديم قدم سقراط، مع ذلك لا يبدو اننا استوعبنا الرسالة. ومن المؤسف أن لا نجد هناك الكثير من التقدم. |
|