تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قرين الشؤم في التراث الأدبي والفكري

الملحق الثقافي
22-1-2013م
حسين محي الدين سباهي:كتب أبو الفرج الأصفهاني في خبر دخول الشاعر منصور بن سلمة النمري على هارون الرشيد فلّما قربتُ من حاجبه الفضل بن الربيع ازدراني لدمامة خَلْقي: «وكان قصيراً أزرق.. أحمر.. أعمش..

نحيفاً، قال: فردّني، وأمر بإخراجي، فأخرجت» وفي قصة تقويم العروض من الكتاب نفسه يعمد بطلاها «الأمير أبان بن عثمان» و»أشعب» إلى العبث بالأعرابي صاحب الجمال، إذ يظهران الاحتيال عليه لابتياع جمله مقابل لباس الأمير البالي، فيأخذ الغضب منه كل مأخذ، ويثور، ويكشف عن مزاج لا يعرف المزاح «والأعرابي أشقر، أزرق، أذعر، يتلظّى كأنّه أفعى».‏

النص في النثر وهو في كتاب الأغاني.. وهو عن شاعر يدعى «منصور بن سلمة النمري» ولكن لا يوجد في النص شعر، بل يوجد حدث، يوجد سلوك. الفضل بن ربيع أحد الأعلام الكبار وقد كان حاجباً «وزيراً» لهارون الرشيد. ولو نظرنا إلى النصّين لوجدنا أن المشترك بينهما هو كلمة «أزرق» والعرب ربطوا بين الأزرق والشؤم واللؤم.‏

عند التدقيق في كلام الكاتب نتبين أن ظاهرة الحجابة قديمة عند الملوك والسلاطين، فلا يوجد والٍ أو سلطان أو ملك دون أن يكون له حاجب، فهو من ضرورات الدخول إليهم في كثير من الأحوال. وهذا يدفع الحاجب إلى الشك في الراغبين في الوصول إلى الحاكم.. فيحولون بسوء ظنّهم بين الراعي والرّعيّة، حين يمنعون الواقفين على الأبواب ويردّوهم وإن كانوا من أصحاب الحاجات.‏

ويذكر أن عمر بن عبد العزيز منع دخول الشّعراء عليه إلاّ الشاعر جرير لأنّه كان من أصحاب الحاجات أو ممن اصطلحت عليهم العلل والأمراض.. وقعدت بهم هممهم.. أو صورهم وأشكالهم ولا شك أن مقابلة الأدنى باحتقار ومعاملته بازدراء مصدرهما الخرافات، واضطرابات نفسيّة تجعل صاحبها يترفّع ويتعالى على أبناء جنسه – كما يقال: حاجب الأمير أمير – ينظر إليهم نظرة استعلاء ويخاطبهم بنبرة الكبرياء لشكلهم، أو خَلْقهم، أو لونهم أو أصلهم أو بيئتهم، فللخاصة الأولويّة. وللباطنة الأفضليّة، وكم أعلن المظهر عن المخبر، وكم شفّ الشكل عن الجوهر. وتبقى القلوب والأعمال معايير للتفاضل وليس الصور والأشكال والألوان، إنها لوحة واقعيّة لنفس مفعمة بالشّر والأذى استطاع الكاتب انتزاعها من البيئة البدويّة جاعلاً من الأعرابي الأبي إنساناً عجولاً، لا يتروّى في ردّ فعله وتصرفه عندما يحسّ بالبخس «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» فيتمرد على الظلم.. ويتلوّى كالأفعى في حركة دؤوبة لا تكاد تستقر على حال عبَّر عنها الكاتب بالفعل المضارع الذي يفيد الاستمرار.‏

هكذا استطاع الأصفهاني ببراعته المعهودة أن يصوّر بمنتهى الدقة حالة بشريّة متأججة بألفاظ ظاهرها مترادف، وباطنها متباين.. معنىً ومدلولاً، وإذا كان لكلّ منها ظلالها وأشكالها فلعلّ كلمة «أزرق» أكثرها تعبيراً عن الغيظ في كل لفظ من النص، وأجمعها للعديد من المعاني نظيراتها.‏

ويمكن القول إن القوة والفخامة هما أهم ما يجمع بين ألفاظ الفقرتين «السطرين» التي حشدها الكاتب حشداً إخبارياً مقصوداً لذته، وقد فعل ذلك لترخي بظلالها القاتمة على النص وتطبع جّوه العام بطابع التشاؤم المخيف، والشر المتوقع على الدوام ممن كانت هذه صفته، كما يلاحظ في عيون الأزرقين، وما يرى في سحناتهم. وإن كان الشيء بالشيء يذكر فان فرقة الأزرقة»1» إنما نسبت الى نافع بن أزرق.‏

ولسنا نرى قدرة الكاتب على هذه المواءمة بين هذا المشهد الغضبي الناتج عن الانفعال النفسي، وبين الأداء الغني الناجح إلا تأكيداً لهذه المادة اللغوية للفكر العربي والتراث اللغوي، فالمدلول الدوني للأزرق الأخلاقي يكاد يجمع عليه في النثر والشعر. ويؤكد الصلة الوثيقة بين زرقة اللون وبين الفعل المتصل باللؤم، فالأزرق منطو سلوكياً ونفسياً، متخلف أخلاقياً و عملياً، وتجمع ذلك كله نزعته العدوانية.‏

أخيراً فالذي يستشف من عبارتي الكاتب تركيزه على المعنى المتعارف عليه في التراث الأدبي والفكري وهو زرقة السمت»2»، و خبث النفس، و ظلمة الروح، فالأعراب بداة و هي جمع بادي ومن بدا «جفا»، والبعد الحسي عن حواضر العلم، ومنائر المعرفة يتبعه بعد روحي يورث الوحشة، وإن صحت قصة مانع الزكاة فلأنه ابتعد عن المدينة، وهذا يحرم الأنس ويتحول الى عداء ولمصيبة هوجاء للذات والجماعة.‏

ولا بد لنا من تسليط بعض الضوء حيث أن الأعمش: الفاسد للعين، الذي تغسق عيناه. والغسق: ذهاب ضوء النهار بقدوم الليل، والعمش: ضعف رؤية العين مع سيلان دمعها في أكثر أوقاتها لمرض لا لخشوع أو بكاء أو تقوى.والعشا: ضعف البصر بالليل والنهار أو بالليل فقط، فهو يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. الأزعر: شرس الخلق. الأزرق: منجبل على الشر والجريمة. عن فاطمة بنت علي»والأغلب أنها ابنة علي بن زين العابدين بن الحسين «قالت: «لما أجلسنا بين يدي يزيد رق لنا بشيء، وألطفنا، ثم إن رجلاً من أهل الشام «وفي رواية أخرى أحمر أزرق» قام الى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين هبني هذه «وأشار اليها» يعنيني، وكنت جارية وضيئة.. فوبخه وزجره. الوضاءة: الإشراق والبياض «وقد جاءتها من نسبها إلى الرسول» عن أم معبد – في حديث الخيمتين- تروي قصة أن أبا معبد وقد كان لديه خيمتان في البادية بين مكة والمدينة وكان لديه أعنز، خرج للمرعى و كانوا مسنتين مرملتين، ملاََناً بالحليب، فشرب منه فأعجبه فقال:من أين لك هذا يا أم معبد؟ والشاة عازب حائل، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا، واللّه إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك من حاله كذا و كذا. قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت:رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة أبلج الوجه»3»، وحسن الخَلق، لم تعبه ثجلة، ولم تُزر به صعلة، وسيم قسيم،في عينيه دعج.. وفي أشفاره وطف.. وفي صوته صهل... وفي لحيته كثافة أدجّ أقرن، إن صمت فعليه وقار.. وإن تكلّم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد.. وأحسنهم وأجملهم من قريب، حلو المنطق فصل لانزر ولاهزر.. وكأنّ منطقه خرزات نظم يتحدّرن، ربعة لا تشنأه من طول ولا تقتحمه عين من قصر.. غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً.. له رفقاء يحفّون به إن قال سمعوا له.. وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود.. محشود، لا عابس.. ولا مفند. فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلّن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.‏

العرب تقول: نصل أزرق بيّن الزرق – أي شديد الصفاء – وسميّت الأسنّة زرقاً للونها وقيل لصفائها.. ويروى قول الشاعر:‏

أيقتُلُني»4» والمَشرَفيُّ مُضاجعي/ ومَسَنونَة ٌزرقٌ كأنيابِ أغوالِ‏

وسميت الخمر بالزرقاء.. وماء أزرق صافٍ، ويقال: زرقة بعينه إذا أحدها نحوه ورماه بها، وازرقّت عينه مثل احمرّت. والزرق: حدّة النظر ومن المرجح أن زرقاء اليمامة سمّيت بذلك لحدّة بصرها.. ونقول رجل زرّاق أي خدّاع.‏

يقول عيينة بن حصن إنّه أراد السفر فلمّا استقلّت به ركابه قال لأصحابه ارفقوا عليّ فإن لأمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» حاجة.. فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أرى هذه الأعاجم قد كثرت ببلدك فاحترس منها.. قال عمر بن الخطّاب: إنّهم قد اعتصموا بالإسلام.. قال: أما والله لكأني أنظر إلى أحمر أزرق منهم قد جال في هذه ونخس بإصبعه في بطن عمر، أخشى أن يفعل كذا. فلمّا طُعن عمر قال:ما فعل عيينه؟ فقيل له: هو في الجباب»5» فقال: إن في الجباب لرأياً والله ما أخطأ بإصبعه الموضع الذي طعنني فيه هذا الكلب.‏

وكلمة «أشقر» تفيد معنىً سلبياً، والأشقر والأحمر متداخلان، ويعبّر بأحدهما عن الآخر وينوب عنه.. وإن كان يعبّر عن الأحمر بالأزرق أيضاً، وأهل الحبشة يغلب عليهم اللون الأسمر ويسمّيهم الأوربيون «سرتوني أو سرتسوني» وهي كلمة سيئة عندهم تعني أصحاب البشرة السمراء.. بينما هم بيض.. حمر.. زرق، منهم الأفاضل وفيهم من هو أسود أعرابي.. ومنه قول زهير بن أبي سلمى:‏

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أشأمَ كُلًّهُم/ كَأحمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفطِمِ‏

هناك بيتان لحمّاد عجرد أضفى فيهما اللون الأزرق وسواه الوجوه على المال الدخيل «المال الممنوع» على سبيل المجاز تنفيراً من هذه الخلّة الذميمة:‏

إِنّ الكريم لَتَخفى عَنكَ عُسرَتُهُ/ حتّى تراهُ غَنيّاً وهو مَجهودُ‏

وللبخيلِ على أموالهِ علَلٌ / زرقُ العيونِ عليها أوجُهٌ سودُ‏

والغريب توظيف مثل هذا القول على الجماعة.. مثلما فعل الشاعر عند وصفه لقبيلة ضبة.‏

فهذا الشعر من الناحية الفنية جميل لكنّه مرفوض من باقي النواحي الخُلقية.. فقد عمم حكمه على الجميع فهو مذموم من الناحية المعنوية.‏

وقد كان لمروان بن الحكم عينان زرقاوان وقد كان أميراً على المدينة المنوّرة زمن معاوية، ومن حسن الطالع أنه أجرى ماء «عيناً للماء» وسمّيت «العين الزرقاء» أو «عين الأزرق» وهي بالمدينة المنوّرة فأراد الشاعر مدحه فقال:‏

يقولون في زرقة العيونِ شآمة / وعندي أنَّ اليمنَ في عينيك الزرقا‏

وصفة «زرق» صفة خُلقية فلا دخل للإنسان بسحنته وشكله و لونه ولكنه مسؤول عن أفعاله وتصرّفاته.. قال تعالى:»وهديناهُ النجدينِ» فالأعمال تنعكس على الوجوه.‏

الهوامش:‏

1-فرقة من الخوارج الحرورية.‏

2-السمت: الشكل أو المظهر أو السحنة أو اللباس.‏

3-أبلج: من البياض والوضوح.‏

4-في رواية: أيقتلني.‏

5-الجباب: اسم مكان، جمع جب.‏

6-يقنص: ينحسر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية