|
الملحق الثقافي « عندما أجوب الحقول، يعتصرني من حين لآخر شعور فطري بأن كل ما أراه له معنى، لو أنني فقط استطعت فهمه. وهذا الشعور بأنني محاط بحقائق لا أفهمها ترقى إلى رهبة عصية على الوصف أحيانا.... ألم تشعر بأن روحك الحقيقية لم تكن لتدركها رؤيتك العقلية، إلا ببضع لحظات مقدسة؟».
هناك حالة أكثر تطرفاً بكثير للوعي الصوفي وصفت من قبل «كاتب القرن التاسع عشر البريطاني» جي إيه سيموندز J. A. Symonds، ولعل هناك أشخاصاً أكثر مما نظن يمكنهم تقديم مثيلات لها من تجربتهم الخاصة. «فجأة»، يقول سيموندز، «في الكنيسة، أو في جماعة، أو عندما كنت أقرأ، ودائماً، على ما أحسب، عندما كانت عضلاتي مستريحة، شعرت بدنو المزاج. استولى على عقلي وإرادتي استيلاء لا راد له، وقد بدا أبدياً في استمراره، ثم اختفى في سلسلة من الإحساسات السريعة الشبيهة بالاستفاقة من تأثير مخدر. ما جعلني أكره هذا النوع من الغشيان هو عدم قدرتي على وصفه لنفسي. حتى أنني الآن لا أستطيع العثور على كلمات لجعله مفهوما. لقد توارى في هيئة اضمحلال مضطرد تدريجي غير أنه سريع في المكان، الزمان، الإحساس، وفي عوامل التجربة العديدة التي تبدو أنها تجيز لما يطيب لنا أن ندعو نفسنا. وبقدر ما كانت تتساقط ظروف الوعي العادي، فإن الحس بوعي هام أو أساسي كان يكتسب شدة. في النهاية لم يبق شيء إلا ذات مجردة، مطلقة، صافية. أصبح العالم بلا هيئة وخاوي المضمون. لكن الذات بقيت، مهيبة بحماسها المتأجج، شاعرة بأشد أنواع الشك حدة حول الحقيقة، جاهزة، فيما يبدو، أن تجد بأن الوجود يتفتت كما تتفتت فقاعة بجوارها. وماذا بعد؟ الخوف من انحلال قادم، القناعة المقيتة بأن هذه الحالة كانت الحالة الأخيرة من الذات الواعية، الوعي بأنني قد لحقت بالخيط الأخير من كوني على حافة الهاوية، وقد وصلت إلى إظهار من خداع أو وهم أبدي، أجاشني أو بدا أنه يجيشني من جديد. أما العودة إلى الظروف العادية لوجود حسي فقد بدأتْ باستعادتي الأولى لقوة اللمس، و من ثم بالتدفق التدريجي والسريع للانطباعات المألوفة والاهتمامات اليومية. أخيرا شعرت مرة أخرى بأنني بشر، وبالرغم من بقاء اللغز عما نعنيه بالحياة دون حل، فقد كنت ممتنا لهذه العودة من الهاوية- الخلاص من هذا الاستهلال الرهيب إلى أسرار الشكوكية. «هذا الغشيان تكرر بتواتر متناقص حتى بلغتُ الثامنة والعشرين من عمري. لقد أفادني بأن أكد لطبيعتي الناشئة على الوهمية الخيالية لجميع الأجواء التي تساهم في مجرد وعي ظاهراتي. هل كثيرا ما سألت نفسي بمرارة، على الاستفاقة من تلك الحالة اللاشكلية لكائن متعر حساس بشدة، حيث وهمية- غشيان الذات التشككية، المتوجسة، الفارغة، النارية التي منها صدرت، أو تلك الظواهر المحيطة والعادات التي تحجب تلك الذات الروحية وتبني ذاتا من تقليديةِ لحم- و- دم؟ من جديد، هل البشر هم عوامل شيء من حلم، شيء ما واه شبيه-الحلم يفهمونه بلحظاته الحافلة بالأحداث؟ ما الذي سيحصل فيما لو تم بلوغ المرحلة النهائية من الغشيان؟» يبدو أن لدى الطبيعة بعض مظاهر قوة غريبة لإيقاظ مثل هذه المزاجات الصوفية. إن معظم الحالات اللافتة التي جمعتها قد حدثت في الهواء الطلق. لقد أحيا الأدب هذه الحقيقة في مقاطع كثيرة في غاية الجمال-هذا المقتطف، على سبيل المثال، لكاتب وفيلسوف القرن التاسع عشر السويسري هنري اميل Henri Amiels من مفكرته الخاصة:- «هل لي من نصيب مرة أخرى في تلك الاستغراقات الحالمة الجليلة التي كانت تأتيني في سوالف الأيام؟ في أحد أيام الشباب عند الشروق، عندما كنت جالسا في خرائب قلعة فوسيغني، وفي الجبال مجددا، تحت شمس الظهيرة، فوق لافي Lavey، متمددا بأسفل شجرة تزورني ثلاث فراشات، ثم مرة أخرى في الليل على الشاطئ الحصوي للمحيط الشمالي، ظهري على الرمل ونظري يطوف بدرب التبانة،- مثل هذه التأملات الكونية، الخالدة،، الفسيحة والجليلة، عندما يصل المرء إلى النجوم، عندما يملك المرء أجلّ لحظات المطلق، ساعات الانجذاب، حيث تطير فيها أفكارنا من عالم لآخر، مخترقة اللغز المحير العظيم، وهي تتنفس نفسا عريضا، مطمئنا،عميقا كنفس المحيط، هادئا غير محدود كالقبة الزرقاء للسماء،... لحظات من مكاشفة لا ترد حيث يشعر المرء بنفسه عظيما كما الكون، أي ساعات، أي ذكريات! إن الآثار التي تتركها وراءها كافية لتملأنا بالإيمان والحماس، كما لو أنها زيارات من الروح القدس.» ها هي مدونة مشابهة من مذكرات ذالك المثالي الألماني المثير مالويدا فون ميسنبوغ Malwida von Meysenbug:- « كنت وحيدا على شاطئ البحر حينما تدفقت علي كل هذه الأفكار، لتحررني وتصالحني، والآن مرة أخرى، كما حدث مرة من قبل في الأيام الغابرة في الألب في دوفين، اضطررت أن أسجد، هذه المرة أمام المحيط الذي لا حد له، رمز اللانهاية. شعرت بأنني صليت كما لو أنني لم أصل من قبل، وعرفت الآن ما هي حقيقة الصلاة: أن أعود من عزلة التفردية إلى وعي الاتحاد بكل ذلك، أن أسجد كأني راحل، وأن أقوم كأني خالد. الأرض، السماء، والبحر تدوي كأنها في تناغم محيط بعالم فسيح واحد. لقد كانت وكأن جوقة كل العظماء الذين عاشوا كانوا من حولي. شعرت وكأني واحد منهم، وقد بدا كأني سمعت تهليلهم: « أنت أيضا واحد من الذين تغلبوا». المقطع الشهير لشاعر القرن التاسع عشر الأمريكي ولت ويتمان Walt Whitman هو تعبير أصيل لهذا النوع المتفرق من التجربة الصوفية «. « أؤمن بك، روحي.... تسكع معي على العشب، حرر التوقف من حنجرتك،... فقط ما أحبه من الهدوء، هو دندنة صوتك الصِّمامي. أتذكر كيف استلقينا مرة، ذاك الصباح الصيفي الشفاف. كيف نهضت بسرعة ونشرت حولي السلام والمعرفة الذين يجاوزان كل خصام على الأرض، و أنا أعرف بأن يد الله هو وعدي، وأنا أعرف بأن روح الله هو أخي، و أن كل البشر على الإطلاق هم إخوتي وأخواتي وأحبتي، و أن سداة سفينة الخلق هي الحب»..... حتى الأقل صوفية منكم ينبغي لحد الآن أن يكون مقتنعا بوجود لحظات صوفية كحالات من وعي ذو صفة خاصة بكل معنى الكلمة، و لها انطباعها العميق على من يختبرها. لقد أعطى طيب نفساني كندي، د. بوك Dr. R. M. Bucke لأكثر الظواهر وضوحا لهذه الظواهر اسم الوعي الكوني. «الوعي الكوني في أجل حالاته ليس، يقول الدكتور بوك، ببساطة توسعا أو امتدادا لعقل وعي-الذات الذي نألفه جميعا، لكنه إضافة زائدة لوظيفة متميزة عن أي مما يمتلكه الشخص العادي كتميز وعي الذات عن أي وظيفة لأي من الحيوانات العليا.» إن الخاصية الأساسية للوعي الكوني هو وعي الكون، أي، الحياة ونظام العالم. إلى جانب الوعي بالكون ثمة ما يحدث من تنوير ذهني يضع لوحده الشخص على خطة جديدة للوجود- يجعله تقريبا عضوا من أنواع جديدة. يضاف إلى هذه حالة من التسامي الأخلاقي، شعور لا يوصف من السموّ، الزهوّ، الانتشاء، وتسريع الحس الأخلاقي، والذي لا يقل عن القوة الفكرية في جلالها وفي أهميتها. يأتي مع كل هذا ما يمكن تسميته إحساس بالخلود، وعي بحياة أبدية، ليس إيمانا بأنه سيحصل عليه، بل الوعي بأنه قد حصل عليه فعلا.» إنها كانت تجربة الدكتور بوك الخاصة، في بداية نموذجية من الوعي الكوني له شخصيا، التي قادته إلى تحريه في الآخرين. لقد طبع استنتاجاته في مجلد ممتع للغاية، منه أخذت الرواية التالية التي حدثت معه:- « لقد أمضيت الليل في مدينة عظيمة، مع صديقين، نقرأ ونناقش الشعر والفلسفة. افترقنا في منتصف الليل. كانت رحلتي طويلة بالسيارة إلى هانسون حيث إقامتي. كان عقلي، تحت تأثير الأفكار، الصور، والمشاعر التي استدعيت بالقراءة والحديث، هادئا ومطمئنا. لقد كنت في حالة من المتعة الانفعالية الهادئة تقريبا، في الواقع لم أكن أفكر، ولكن تاركا الأفكار، الصور، والمشاعر، تتدفق من تلقاء نفسها، إذا جاز التعبير، خلال عقلي، فجأة وجدت نفسي ملفوفا بسحابة لاهبة-اللون. لقد بدا للحظة أنها من النار، حريق هائل في مكان قريب في المدينة العظيمة، ثم عرفت أن النار كانت في داخلي. بعد ذلك مباشرة انتابني إحساس بالانتشاء، من البهجة الغامرة مصحوبة أو مباشرة تلتها استنارة فكرية عصية على الوصف. من بين أشياء أخرى، لم يكن لي مجرد إيمان بها، لكن رأيت أن العالم لا يتألف من مادة ميتة، لكنه بالعكس من وجود حي، أصبحت أعي في نفسي حياة أبدية. لم يكن إيمانا بأن سيكون لي حياة أبدية، بل وعيا بأني قد امتلكت حياة أبدية حينذاك، رأيت أن الناس كلهم خالدون، أن الأمر الكوني يتحقق فيه بدون أي شك تكامل عمل الأشياء معا، تكاملا جماعيا وأحاديا، أن مبدأ أساس العالم، كل العوالم، هو ما نطلق عليه تسمية الحب، وأن السعادة لكل منها لا محالة محققة في نهاية المطاف. استمرت الرؤيا بضع ثوان ثم اختفت، ولكن ذكراها والإحساس بحقيقة ما علمته بقيا طوال ربع قرن مضى منذ ذلك الحين. |
|