تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مــــن ذكرياتـــي مـــع الشـــاعر العربـــي الكبيــــر محمـــــــد مهـــــدي الجواهــــري (قصيـــدته في حمـــص - قصيـــدته في المالكـــي)

ثقـــافـــة
الأثنين 22-12-2008 م
ممدوح السكاف

لذكريات الأدب والأدباء في حمص حديث شيق جميل لا أحلى ولا أمتع لمن عاش إيقاعاته، وشهد مجرياته، يعيدك إلى صبوة ماض من الحنين والشغف يقرب عمره من نصف قرن آفل يحفل بالحيوية والخصوبة والدفء والحميمية،

زهت فيه هذه المدينة المعطاء بألق شعرائها الأعلام آنذاك من رفيق فاخوري إلى رضا صافي إلى محيي الدين الدرويش كممثلين للتيار الكلاسيكي أو تيار الانبعاث والإحياء الشعري، ومن وصفي قرنفلي إلى عبد السلام عيون السود إلى عبد الباسط الصوفي كرواد للتيار الرومانسي أو تيار التجديد والإبداع الشعري، ومن نصوح فاخوري إلى نذير الحسامي إلى عبد الحكيم عبد الصمد كمبشرين بتيار الواقعية الجديدة أو تيار الشعر الاشتراكي.. وكانت هذه التيارات المختلفة المتناقضة بممثليها وروادها ومبشريها تشكل حلقات أدبية متعارضة في الهدف والأسلوب والغاية والشكل، لكنها تلتقي في اجتماع أصحابها ومناصريها أو المتعاطفين مع اتجاههم السياسي ومذهبهم الفني عصر كل يوم في المقاهي الشتوية والصيفية المعروفة بعراقتها وأصالتها مثل (الروضة) و (منظر الجميل) و (الفرح) و (جورة الشياح) و (النصر ) و(البرازيل) و (الهلال) و(فريال). يتحدثون ويناقشون في السياسة والأحزاب والحياة والمعاش والشعر والفن والموسيقا والغناء والتمثيل والسينما، يختلفون ويتفقون، يتخاصمون ويتصالحون مع أفراد هذه الحلقة أو تلك أو داخل أشخاص الحلقة الواحدة، يصمتون قليلاً صمت المتأمل أو الذاهل ويتكلمون كثيراً كلام الجاد أو الهازل، يعبسون أحياناً لأمر جلل أو يضحكون في أغلب الأحيان على شأن تافه أو موقف حرج أو نكتة محكمة، وإذا نشر أحدهم قصيدة أو بحثاً أو مقالة أو خاطرة يصبح المنشور حديث الجميع وموضع اهتمامهم في تعليقاتهم نقداً وتحليلاً، إعجاباً أو استخفافاً، لكن خيط الود والمحبة يبقى بينهم موصولاً، مهما تباعدوا في الآراء أو تمايزوا في الأحكام، أما ما يعرف بأدب الحوار أو فن السجال فقد كان حاضراً في جلساتهم ويعبّر عن مدى نضج شخصياتهم وتهذيبهم الاجتماعي وتطويع ثقافتهم النظرية المتحصلة لهم من المطالعة والتجربة لتستحيل إلى مسلك أخلاقي يحتذى، مقرون بالفعل، مرتبط بالتطبيق مترجم بالممارسة.فلا غلو ولا شطط ولا استهتهار بالرأي الآخر وإنما احترام له وتقدير لصاحبه والرد عليه، بموضوعية لها حواملها من الوعي والمعرفة، وروافعها من البرهان والدليل.‏

وتطوف الآن، وأنا أذهب في تداعياتي وأكتب هذه الأسطر، عبر ذاكرتي طيوف ذكرى من أحن الذكريات علي وأحبها إلى روحي وأدفئها لعواطفي، لا أنساها ما حييت ويكاد القلب يدمع أسى في أثناء استحضار العقل لمجرياتها والخيال لتجلياتها، وكان لي من العمر آنذاك حوالي ثماني عشرة سنة وتفاحة صدري لا تزال برعماً شذياً والآمال الخضراء تخفق في الجوانح البيضاء، والفصل كان صيفاً لاهباً أذكره ورمضان شهر الصوم الكريم المشبع بتقاليده الشعبية والدينية المستحبة يحل في تموز أو آب من عام 1956 وحمص كلها تلهج في منتدياتها الأدبية والفكرية ومجالسها المنزلية والعائلية وأحزابها السياسية التقدمية وأحيائها الوطنية النضالية وفئاتها الطبقية البسيطة بيوم قدوم الشاعر العراقي المشهور محمد مهدي الجواهري إليها في زيارة شعرية سريعة بدعوة من الشباب الثوري المتحمس في المدينة ليلقي قصيدته الرائعة في تمجيد الشهيد البطل عدنان المالكي الذي اغتالته قوى الشر والظلام والغدر بمؤامرة دنيئة مدبرة في العام نفسه كان لها وقع الصاعقة في نفوس الشعب الأبية وضمائرهم الحرة الرافضة لسياسة الأحلاف الاستعمارية.‏

وأذكر فيما أذكر أن مكان أمسية شاعر العرب الكبير قد تعين في سينما (الأوبرا) التي هدمت منذ عديد من السنوات ليقوم على أنقاضها بناء اسمنتي ضخم ما برح العمل يجري فيه أو يتوقف حتى كتابة هذه المطالعة ولما ينته، وهو مقابل لدار البلدية القديمة بعد أن أصبحت دائرة للآثار تضم متحفاً لعاديات المحافظة أما زمان الأمسية ففي التاسعة ليلاً من أحد أيام شهر الصيام المبارك بعد أن يكون الصائمون قد تناولوا إفطارهم وأخذوا قسطاً وافراً من الراحة يجعلهم يستمتعون بسماع الشعر واستلهام معانيه الكفاحية وصوره المثيرة للحماسة وموسيقاه الموّلدة للتصفيق.‏

وتزدحم صالة السينما المذكورة وشرفتها على اتساعهما ورحابتهما بالجمهور الحمصي الذواق، المتعطش لإرهاف الآذان الحساسة والإنصات للشعر النضالي الملتزم ازدحاماً لم تشهد له المدينة من قبل ولا شهدت له مثيلاً من بعد في اجتماع للقريض أو مهرجان للقصيد (إلا في أمسيات الشاعرين محمود درويش ومظفر النواب في السبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي)، فقد كان الوقوف في الممرات العريضة الواسعة وفسحات الصفوف الخلفية والأمامية للصالة وردهاتها المترامية يوازي عدد الجلوس في مقاعدهم، حتى إذا غصت القاعة بالحضور ولم يبق ثمة موطئ قدم لإنسان اضطر الذين لم يسعفهم الحظ أو الظرف بمقعد أو وقفة أن يتجمعوا أمام باب السينما ليستمعوا إلى شاعرهم الثائر على الظلم والطغيان والمحرض على مجابهة صليل العدوان، من خلال مكبرات الصوت المنصوبة على جدران الردهة الخارجية للصالة إلى أن سدوا الطريق على المارة.‏

ثم أعلن عريف الحفل بدء الأمسية الشعرية وقدم الشاعر المناضل تقديماً حماسياً يليق بمكانته الرفيعة في عالم الشعر العربي وميدان الكفاح الوطني فلقد أشرك الشاعر شعره بمصير الوطن ونذر نفسه للغضب الصارخ على الاستعمار وعملائه ومؤامراته وأحلافه، وختم العريف قائلاً: «إذا كان دعبل الخزاعي الشاعر العباسي يردد في حياته ومجالسه« أحمل صليبي على ظهري ولا أجد من يصلبني عليه »فإن الجواهري لا يزال يردد في سجنه أو منفاه« أما أنا فقد صلبت عليه ألف مرة».‏

وبعد أن انتهت عبارات التقديم القلبي الحار بلغتها الاحتفالية المرحبة ولهجتها التكريمية السامية ظهر الجواهري أمام الحشود الزاحفة لسماع شعره الثوري بقامته المديدة المنتصبة وجسده الفارغ النحيل ونظارته الرقيقة الصغيرة فوقف الجميع تقديراً وإجلالاً للشاعر وشعره، ودوت القاعة بالتصفيق اللاهب المتواصل، و(أبو فرات) ينحني برأسه وجسده احتراماً وحباً لهذا الاستقبال الإنساني المؤثر ولم يستطع ضبط عواطفه أو السيطرة عليها فطفرت الدموع من عينيه البراقتين الشاخصتين إلى الجمهور غزيرة فياضة بالشفافية والألفة والتعاطف الوجداني العميق، إنها دموع الفرحة بروعة اللقاء الجماهيري بين الشاعر ومعجبيه في مناسبة وطنية حزينة ومحفزة، ثم بعد أن صمتت الأكف نطق الشاعر فقال محيياً وشاكراً: لم أشأ أن ألقي قصيدتي في الشهيد الفقيد عدنان المالكي دون أن أحيي هذه المدينة المجاهدة الباسلة، حيث يرقد في أحشاء ترابها الطاهر المعطر بدماء ضحايا الكفاح والمعارك، موئل البطولة ورمز الشجاعة وعنفوان العرب، سيف الله المسلول (خالد بن الوليد) فنظمت على عجل في فندقي قبل قدومي إليكم بزمن قليل هذه الأبيات المعدودة تحية من القلب لشباب حمص وأبنائها البررة وتاريخها النضالي الطويل الحافل بالمآثر ثم أنشد هذه المقطوعة إنشاداً يفيض بالمشاعر الصادقة والتلوين الصوتي الخلاب والإعادة والتكرار وفيها يقول:‏

يا شباباً بحمص يجمع لطفاً‏

من ورود وقوة من أسود‏

هكذا مثل لونكم في المنايا‏

والأماني كان لون الجدود‏

هكذا مثلكم بنى المجد في السلم‏

وفي الحرب خالد بن الوليد‏

هكذا مثل لونكم لون عدنان‏

شهيداً ولون كل شهيد‏

أنا إن غمت الحياة وسام الفكر ذلا سوط الولاة العبيد‏

وأمالت كف الأعاصير من دوحي وألوى ثقل البلاء بعودي‏

رحت أسقي دم الشباب أناشيدي فيهتز بالحياة قصيدي‏

أنا إن قطعت حبالاً من القربى وقامت كالغول سود الحدود‏

رحت أجتاز كل حد وأمتاح نمير الهوى بحبل وريدي‏

وسلام على أريج الورود وسلام على هزيج الرعود‏

وكان أن استعاد الحضور المتوهج أبيات هذه القصيدة القصيرة مرة ومرة والبسمات زهواً وانتشاء تتخايل على وجوههم وتفتر بها شفاههم وجمال الشر وصدقه وحبور الناس بوجودهم بين شاعرهم المجلي ومعه في لقاء وطني عز شبيهه وندر مثيله، كل هذا كان يعمر قلوب الحضور ويؤثر في عواطفهم المضطرمة بمشاعر الاعتزاز ولهيب الثورة أروع تأثير وأطيبه.‏

وهدأت الصالة قليلاً بعد شدة واهتياج ولهفة وابتهاج ثم أخذ الجواهري يلقي قصيدته السامقة في تأبين المالكي الشهيد وتمجيد مواقفة القومية الصلبة، وعدد أبياتها مائة وثلاثة وعشرون بيتاً جاءت على البحر الكامل وكان الشاعر قد أنشدها من قبل في دمشق أثناء حفل حاشد اعتبر يوم ذاك تظاهرة سياسية أدبية فريدة من نوعها، سادتها الحماسة المتوقدة المنقطعة النظير والمشاركة العاطفية الحارة للجواهري القادم من عراق الحكام العملاء والمأجورين ومطلعها:‏

خلفت غاشية الخنوع ورائي‏

وأتيت أقبس جمرة الشهداء‏

ودرجت في درب على عنت السرى‏

ألق بنور خطاهم وضاء‏

وحمدت نفساً حرة لم تنتقض‏

شهد الوفاء بعلقم الإغراء‏

وراح الجمهور الكبير الواسع الحسن الإنصات للشعر المغرم بقراءته وسماعه يستعيد الأبيات الحماسية من هذه الملحمة الشعرية الثورية الخالدة وهو يتابع التصفيق بحرارة واندفاع وإعجاب بالشاعر العربي الملهم، أما الجواهري فكان يتجاوب مع رغبة الجمهور فيعيد إنشاد ما يطلبون بغبطة ومسرة وأريحية واستحباب..ويعمد بين إعادة إنشاد البيت والآخر إلى خلع نظارته ثم معاودة اعتمارها على أذنيه بساعديها المعدنيين الرفيعين ونادراً ما نظر في أوراق القصيدة الموضوعة أمامه على المنبر فهو يحفظها عن ظهر غيب ويلقيها على الحشود بلهجة أهل العراق الأقرب إلى الفصاحة البدوية بما فيها من نكهة الإمالات الصوتية والنطق بالحروف نطقاً سليماً تضخيماً وترقيقاً مع ضبط لغوي غاية في الإجادة والدقة، وتلوينات إلقائية في درجات النبر أو الهمس تتناسب والمعاني المتضمنة والموسيقا المتطلبة مصحوبة بإشارات اليدين وتحريك لحدقتي العينين لفتاً للانتباه وشداً للاستماع.‏

وهكذا مضت وقائع هذه الأمسية التاريخية إلى أن انتهت جلجلتها وكان المؤذن تقريباً على أن يرفع أذان الصبح ويتابعه بقوله المعهود: يا أمة خير الأنام أمسكوا عن الطعام. ‏

يتبع‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية