تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في الشام يتلاقى الشرق والغرب..أدب الرحلات: تواصل وانفتاح على الحضارات

ثقـــافـــة
الأثنين 22-12-2008 م
فادية مصارع

في دمشق يتلاقى الشرق والغرب، لا ليتنابذا ويهدما بعضهما بل ليتحدا ويتفاهما... تلك هي صورة الشام في عيون الكاتب الفرنسي موريس باريس، وهو واحد من كثيرين زاروها وشهدوا أن في تاريخها ملخص تاريخ الإنسانية.

ولعل أدب الرحلات وأثره في المثاقفة بين الشعوب هو أهم وثيقة تجعل من الشام نموذجاً يسلط الضوء على إبداعات إنسانية لرحالة قصدوها ليكتشفوا التاريخ في جنباتها وينقلوا ثقافة التسامح والتآخي إلى شعوب العالم شرقاً وغرباً.‏

وهو موضوع الندوة التي دعا إليها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بوزارة التعليم العالي، وقد استمرت على مدى يومين متتاليين نقلنا خلالهما باحثون عرب وأجانب إلى تلك البلاد التي زارها الرحالة حتى ظننا أننا زرناها معهم في يوم من الأيام.‏

قدم الرحلة وأهميتها عند العرب‏

عرف العرب قيمة الرحلة في حياتهم من خلال رحلاتهم التجارية إذ كانت قوافهم تنقل البضاعة من اليمن إلى الشام وبالعكس براً وبحراً ما ساعدهم على الاهتمام بها ونجاحها كما بيّن د.عبد المجيد حمدان من جامعة دمشق، هو ازدهار الحضارة الإسلامية والتسامح الديني إضافة إلى الأسباب الدينية والتجارية والعلمية والسياسية وأخيراً الصحية بحثاً عن علاج أو دواء،أما قيمة الرحلة الأدبية فتتجلى حسب د. حسني محمود حسين في ما تعرض فيه موادها من أساليب ترتفع إلى عالم الأدب وترتقي إلى مستوى الخيال الفني بأسلوب كتّابها القصصي المعتمد على السرد المشوق وعن هذا النوع من الأدب يقول كراتشكوفسكي: أثار هذا الأدب اهتماماً بالغاً بسبب تنوعه وغنى مادته،: فهو تارة علمي وتارة شعبي، وطوراً واقعي وأسطوري، تكمن فيه المتعة كما الفائدة، لذا يقدم لنا مادة دسمة متعدة الجوانب لا يوجد مثيل لها في أدب أي شعب معاصر للأدب.‏

وتحدث حمدان عن فائدة الرحلة وأهم الرحالة العرب في القرن الرابع الهجري والذين كان لهم شأن كبير آنذاك، ومنهم المسعودي وابن حوقل، والإصطخري والمقدسي.‏

نظرة الأنا إلى الآخر‏

حوار الذات والآخر كان عنوان بحث د. عبد الهادي غازي من جامعة دمشق، الذي بين أن مكانة الرحالة العرب تتميز عن سائر الرحالين والمؤرخين في العالم، لما تمتعوا به من صفات ومميزات وهو ما أكده الكاتب ول ديورانت حين أبدى إعجابه بالرحالة العرب، فأشاروا إلى أن خير ما يقال عنهم، إنهم يفوقون غيرهم في اتساع دائرة جهودهم ونواحي نشاطهم واهتمامهم، وإنهم يربطون الجغرافية بالتاريخ ربطاً صحيحاً موفقاً.‏

أما ما ركز عليه د. غازي أن الرحالة العرب كانوا يعرضون الآخر عبر ذواتهم وعلى مرايا نظامه الثقافي فيقارنون عالم الآخرين بعالمهم، وأكد أننا لم نر جغرافيينا يعادون الآخر أو يضعون فواصل بينهم وبينه، وقد التقط ابن فضلان في رحلته صوراً متنوعة للمجتمعات التي زارها، لكنه لم يقف موقفاً سلبياً في عرضها له، ويوضح د. شعيب حليفي أن حضور ثنائية المسلم والكافر في رسالته متجلية بين الذات والآخر، وهو من الرحالة البارعين في استخدام الحوار لأنه يعتبره الوسيلة الناجعة للتواصل بينه وبين الأقوام التي مر بها في رحلته، فضلاً عن أنه مرتكز التفاعل والتواصل بين الشعوب ويشير د. غازي إلى أن نظرة الرحالة إلى الآخر تشكل جزءاً مهماً من الأجزاء التي يقوم عليها أدب الرحلات، إذ يصبح اكتشاف الآخر هاجساً لدى الرحالة لأن المجتمع مرايا متعاكسة تري الأبعاد الحقيقية للنفس البشرية.‏

إن نظرة الرحالة العربي لم تفضل التفاعل الحاصل بين الأنا والآخر الذي ينأى عن محاولة الأنا فرض رؤيته الفكرية على ذلك الآخر.‏

جهل الآخر بالعربي‏

وللآخر رأيه وتصوره للذات العربية وقد جسد الرحالة العرب كما أشار د. غازي بعضاً من وجهات النظر هذه وكان في نظرته جهلاً واضحاً للذات العربية، ويمكن أن يعزى ذلك إلى فترة التباعد الطويلة وندرة الاحتكاك بين الشرق والغرب، لكن الرحالة العربي أثناء تجواله في أرض هذا الآخر ألح على تقديم منظوره ذي النزعة الاثنوغرافية المتعالية الرافضة لكل اختلاف خارج عن مركزيته.‏

بين الشرق والغرب‏

انتقل بروحه وجسده من سورية إلى أقطار عربية أخرى وحتى إلى فرنسا، إذا كانت هذه الروح تأبى أن تحبس داخل نفسها، فحمل هم التأثر والتأثير على المستوى الداخلي والخارجي، إنه سعد الله ونوس الكاتب المسرحي السوري والذي تناول مسرحه د. حسين منصور العمري من الأردن مسلطاً الضوء على الآخر فيه إذ كان تأثره بالمسرح الغربي على مستويات عدة سواء بما كان يسمى بالتغريب، أو تأثره ببعض المسرحيين العالميين أمثال بريخت ونهجه أو ببعض الأعمال على مستوى المسرحية الواحدة أو عدة مسرحيات، لكن ومن خلال دراسته لمسرح ونوس وجدد. العمري أنه وعلى الرغم من تأثره بمسرح بريخت استطاع بإمكاناته أن يحافظ على أصالة مسرحه ويعطيه الروح اللازمة لروح الشرق، على مستوى الشخصيات والأفكار والمبادىء.‏

المشرق فردوس الأندلسيين‏

أما أصداء الرحالة الأندلسيين في بلاد الشام فقد رصدتها د. مهجة الباشا من جامعة حلب مشيرة إلى تعلق الأندلسيين بالمشرق الذي كان قبلة أنظارهم ومهوى أفئدتهم، ومصدر إلهامهم، والأندلسيون الذين قدموا إلى المشرق، ونزلوا إلى بلاد الشام تحديداً كان لهم أثر كبير في حركتي الثقافة والفكر سواء في الفقه أو النحو أو اللغة أو الشعر والتوشيح والأدب والموسيقا والتصوف أو في الطب والصيدلة، والمؤلفات الأندلسية التي نقلوها معهم ،كان لها أثر كبير في إغناء هذه الحركة وإثرائها.‏

تنوير للقلب‏

بدورها د. فادية المليح حلواني رأت أن الرحلة تنوير للقلب ورؤية منفتحة على الآخر، كما أنها لم تعد بحثاً عن المجهول من حيث المكان، إنما المجهول من حيث المعاني والرؤى، إنه البحث عن الخيال والإبداع، والرحلة لم تفقد شروط الحياة وتجدد المكان على الرغم من تحول الأرض إلى قرية كونية انتفى فيها الاستغراب واختفى فيها المجهول، لأنها والقول للدكتورة حلواني: لا تزال تنطوي على معنى التجدد في كل خطوة وكل انعطاف، ففيها الإمساك من جديد من أجل الخلاص من المحاصرة، وفيها الإخلاص لشروط التجدد بحثاً عن الجماليات والإبداع الممزوج بالخيال والذي كان دائماً مقدمة للاكتشافات والاختراعات وتقبل المجهول الجديد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية