تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الإنسان الغزال

آراء
الاثنين 22-12-2008م
في الأربعينيات وكنا آنذاك فتياناً صغاراً، انتشرت في سورية قصة (الإنسان الغزال) انتشاراً لا مثيل له، فشغلت الناس جميعاً في المدن والقرى، حتى لم يبق إنسان لم يسمع بها،

وقد لعب الخيال الشعبي في روايتها، فأضاف إليها وزاد عليها فإلى جانب الإنسان الغزال يقف (الإنسان الذئب) و« الإنسان الأرنب » إلى غير ذلك من الروايات والأساطير ، ولا يزال حديث القصة على ألسنة الرواة حتى يومنا هذا.‏

وقد اخترع هذه الأسطورة صحفي شامي، حاد الذهن ، واسع الخيال يعمل في الصحافة اليومية، ثم قرر أن يصدر على حسابه جريدة اسبوعية سماها (آخر دقيقة) كانت تصدر اسبوعياً ،حافلة بالتحقيقات المثيرة والأخبار الطريفة، والأحاديث البارعة والقصص والمقالات الغريبة والشيقة.‏

وذات اسبوع ظهرت ( آخر دقيقة) وعلى صدر صفحتها الأولى قصة (الإنسان الغزال) مع صورة له، وقال الصحفي في روايته إنه عثر عليه في بادية الشام يسرح ويمرح مع قطعان الغزلان، يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، ويمشي مثلها على أربع ويركض كما تركض لا تلحقه سيارة، ولا يدركه خيال، وجسمه جسم إنسان ورأسه رأس إنسان، وأفاض في الحديث عنه من خياله الخصب، فذكر أنه ربما عثرت عليه غزالة في البرية فحنت عليه وراحت ترضعه من حليبها حتى كبر وأصبح في سلوكه وحياته غزالاً ، ولكنه في شكله بقي آدمياً.‏

وما كادت الجريدة توزع على المكتبات وعلى الباعة حتى تخاطفها الناس، وصاروا يتناقلون الحكاية، فانتشر الخبر كالصاعقة داخل سورية وخارجها، حتى إن بعض الصحفيين والمصورين الأمريكيين وصلوا إلى دمشق لينقلوا إلى صحفهم في الولايات المتحدة قصة وصور الإنسان الغزال، وقصد الصحافيون الأجانب الذين صدقوا حكاية الصحفي السوري ، فما كان منه إلا أن هرب من مكتبه ولم يعد إليه إلا بعد أن تأكد أن الزملاء الأجانب قد قفلوا إلى بلدانهم بخفي حنين .‏

وفيما تبين للقراء أن (الإنسان الغزال) ليس إلا صبياً في الثانية عشرة من عمره شبه معتوه، أصم وأبكم، هرب من دمشق إلى الضواحي وعاش فيها متشرداً في أطرافها يأكل مما تقدمه له نساء القرى من مأكل، وينام في الزرائب والخرائب و يفترش الأرض ويلتحف السماء، وكان الصبي المذكور يعرفه سكان القرى المحيطة بدمشق ويشفقون عليه، كما كان يعرفه رجال الدرك ويعطفون عليه أيضاً ولم يخطر ببال أحد أنه سيصبح في ذهن أحد الصحفيين موضوعاً لتحقيق صحفي مثير يصل خبره إلى أصقاع المعمورة.‏

وهكذا اكتشف الناس أن محرر (آخر دقيقة) يعتمد في كسب القراء لجريدته على الإثارة والطرافة دون الالتزام بالصدق والصحة في بداية الخبر، فاعرضوا عن قراءتها، وما لبثت بعد وقت قصير أن توقفت عن الصدور.‏

وحينما دخلت في خدمة صاحبة الجلالة في منتصف الخمسينيات قال لي المؤرخ المعروف أمين سعيد صاحب جريدة الكفاح الدمشقية عندما عينني لنقل وقائع جلسات مجلس النواب السوري- إننا نعمل على مد جسور الثقة، بين الجريدة والقراء، وكل ما أطلبه منك التحلي بالصبر والصدق والدقة في نقل ما يحدث داخل المجلس ، والتأكد من صحة ما تكتبه، فنحن لا تهمنا الإثارة الناتجة عن قصص خيالية أو أخبار مختلفة لا أساس لها. وبهذا تكسب ثقتي وثقة القارئ وينفتح الطريق أمامك لكي تكون صحفياً ناجحاً.‏

ونحن الآن في الألفية الثالثة ، وقد تطورت الصحافة تطوراً مذهلاً حيث أصبحت فناً مثل كل فنون الصناعة والتكنيك إلا أنه مع الأسف الشديد ما زال ضمن جمهور الصحفيين في العالم العربي من يعتمد حتى الآن أسلوب التلفيق والتزوير، والتزييف بهدف الاساءة إلى بعض الأفراد أو الحكومات أو الدول دون وازع من ضمير أو خلق وبدون الالتزام بقواعد وأدبيات الصحافة الهادفة والصادقة والهادئة.‏

ورحم الله الأديب الكبير سعيد تقي الدين الذي قال: إذا أردت أن تغتال شخصاً لا تطلق عليه رصاصة بل إشاعة وقياساً على هذا كم بين جمهور الصحفيين من محترف اغتيال ومحترف قتل عن طريق إطلاق الإشاعات الكاذبة على الحق والحرية والعدالة والديمقراطية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية