تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار.. نجمة الصبــــــاح إن حكت

آراء
الخميس 14-1-2010م
ياسين رفاعية

يقول البعض إن حب المراهقة هو أجمل حب، لكن على المقلب الآخر قالت لي نجمة الصباح إن حب المراهقة قد لا يكون هو الحب الحقيقي، ولكن فيه طعم اللقاء الأول، وطعم القبلة الأولى،

واللقاءات السرية بعيداً عن أعين الأهل وخوفاً من بطشهم، وهي تلك اللقاءات التي يكتشف فيها كل من العاشقين طعم الحياة الحقيقي الذي يبدو في المطلع أنه طعم العسل ثم سرعان ما ينقلب إلى طعم العلقم.‏

وتجلس أمامي هذه الفتاة الجميلة التي لم يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين فإذا فيها من وعي الحياة كأنها امرأة عجوز خبرت الحياة حلوها ومرها.. وتقول مرددة الحب الحقيقي، هو، في كل مرة: الحب الأخير.. إذ يكون المرء قد خبر بالتجربة مراحل العمر كلها. وتضيف إن حب المراهقة أو حب الشباب هو حب السرعة في الوصول لكلا العاشقين.. يصبح كل شيء في حياتهما كأن الآخرة ستقع غداً.. بينما حب الكهولة حب هادئ، ناعم، يخيم عليه الاحترام المتبادل بين الطرفين، لا القبلة مغرية، ولا غرفة النوم أيضاً مغرية.. كل شيء بينهما يأتي على مهل.. فيصبح الحب له طعم آخر.‏

وقالت أقصى ما يقتل الحب الظنون والشكوك.. وأقسى ما يؤلم العاشقين عدم الثقة كل منهما بالآخر.. الثقة عماد الحب ومبناه بذلك تزول من النفوس والقلوب ظن كل منهما بالآخر.. فما أبشع عندما يكونان بعيدان عن بعضهما يسأل العاشق: أين هي؟.. مع من؟ وفي أي مقهى؟.. وهل هي مع رجل آخر، هل تهتف لصديق له من وراء ظهره.. أو باختصار الكلام: هل تخونه؟‏

أمام هذه الشكوك والظنون يبدأ الحب بالانهيار والدمار والفراق، فربما تكون هي وفية حقاً لحبيبها أو هو وفي حقاً لحبيبته غير أن الظنون تأخذهما إلى مرحلة الشك البغيض.‏

روت لي نجمة الصباح حادثة غريبة تعرفها شخصياً أن إحدى صديقاتها أحبت رفيقها في الجامعة الذي كانت شخصيته ضعيفة جداً، وكانت تبث فيه الثقة بنفسه، وبأنه حقاً، هو الرجل الوحيد في حياتها، ولكن ظنونه كانت تأخذه في مسارب أخرى.. متسائلاً نفس هذه الأسئلة.. أين.. ومع من.. وفي أي مكان، وخطر له ذات يوم أن يراقبها بعين خفية، فإذا به يمسك بها في أحد المقاهي تجالس شاباً من عمره، شتمها أمام الناس وكاد يعتدي عليها، ولكن، بعد تلك الفضيحة، اكتشف أن هذا الشاب الذي كانت تجالسه لم يكن سوى أخوها، وانهار الحب، ورغم كل الوساطات التي حاولها الشاب لاستعادة حبيبته باءت كلها بالفشل، فقد نفرت الفتاة منه إلى حد الكره.‏

السلام في الحب ضروري، تقول نجمة الصباح.. الهدوء ضروري.. الحب تقتله العجلة، تقتله الغيرة.. الغيرة الحمقاء التي هي أحد أسباب سقوط الحب في الهاوية.. لابأس بغيرة معقلنة تشعر العاشقين بحب كل منهما إلى الآخر.. ولكن إذا غالى أحد الطرفين بالغيرة تنقلب وبالاً عليه وعلى القصة برمتها.‏

وأشارت إلى مقطع من أغنية «إن مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عمري» للفنانة الراحلة أم كلثوم.. وهي أغنية شهيرة لحنها لها محمد عبد الوهاب، هذا المقطع:‏

«إن غبت عني‏

أفضل أنا وظني‏

يقربك مني‏

ويبعدك عني»‏

ففيه هذا الخوف من الظن والشك، ما إذا كان الحبيب يخون حبيبته أم هي تخونه، هذا صراع قد يؤدي بعض الأحيان إلى الجنون، أو الجريمة، أو القتل.. فكم من شك يؤدي إلى القتل، ونتذكر بالمناسبة المطربة التونسية ذكرى التي قتلها زوجها الملياردير المصري مع صديقه وزوجته في قصره ثم انتحر نتيجة الغيرة العمياء التي داهمته في لحظة غضب.. وهي جريمة لا تغيب عن بال المصريين والعرب الذين تابعوا هذه المأساة.. وننجر، بهذه المناسبة، إلى جريمة الشرف في «هذا المقام» حيث هي أيضاً من باب الشك والظنون بالأخت أو الزوجة أو الحبيبة.. ولدينا أمثال كثيرة من هذا النوع.‏

حتى في الزواج والموت يكره أحد الزوجين أن يتزوج من آخر بعد موته، وفي ذلك شعر كثير، ألا يمكن في ذلك أن نرى في غياب تبادل التعبير العاطفي بين الزوجين، جانباً من الدفاع الجماعي التقليدي عن الذات؟ ذلك أنه بقدر ما تزداد حميمية الزوجين، تنغلق ثنائيتهما ويقل انفتاحهما على الآخرين، خوفاً، أو خشية، يرى الأنطاكي: «إن الأزواج العاشقين زوجاتهم هم استثناء يذكره، منذ القديم، مصنفون، كالكسائي، مثلاً، قد يؤخذ على الزوج إفراطه في حب زوجته إلى الغيرة عليها والخوف من أن تذهب من يده، وأحياناً، قد يدفع إلى تطليقها تحت ضغط الأهل أو غيرهم، ولعل الشاعر جرير أول من نظم شعراً في زوجته بعد وفاتها، ليقول:‏

لولا الحياء لهاجني استعبار‏

ولزرت قبرك، والحبيب يزار‏

قبل هذا، كانت الخنساء (المتوفاة في عهد عمر) قد عوضت صمت الزوجين بما تقول الأخت في أخيها، لقد كان منها الوعد بأن لا تبكي غير أخيها صخر، ما خالف ذلك، هو نادر، توجهت به إلى أخيها معاوية، لم يكن محتملاً، في عهد الخنساء، أن تقول الشعر امرأة في زوجها، كما لم يكن محتملاً عكس ذلك.‏

وتذكرنا نجمة الصباح بكثير من الكتب قديمها وحديثها عن الحب وتقول إن أمة العرب أكثر أمم الأرض كتابة عن الحب، ومن أحدث الكتب الموضوعية في هذا المجال «في الحب والحب العذري» لكاتبنا الكبير صادق جلال العظيم وملخص فكرته في هذا الكتاب أن عاطفة الحب تتميز ببعدين رئيسيين: الامتداد في الزمان، أي دوام الحالة العاطفية واستمرارها عبر فترة معينة من الزمن والاشتداد، وهو يدل على مدى عنف الحالة العاطفية وحدتها في لحظة ما من الزمان، وأن هناك تضارباً بين الامتداد والاشتداد، فكلما امتد الحب قلت شدته، وبالعكس كلما كانت العلاقة الغرامية سريعة نسبياً وقصيرة مدتها مالت إلى الانفعال الشديد، وتتجسد نزعة الامتداد في الحب في مؤسسة الزواج والأسرة التي يفترض فيها أن توفر الطمأنينة والسكينة والاستقرار للفريقين المتحابين وأن تشكل حجر الزاوية في بنيان المجتمع واستقراره واستمراره من عصر إلى عصر، وفي ثبات تقاليده وأنماط سلوكه من حقبة إلى حقبة، وبالمقابل فإن نزعة الاشتداد تتجسد في المغامرة الغرامية التي يفترض أنها توفر للعاشقين جواً عاقلاً بالمغامرات والغزوات والمفاجآت ما يزيد من عنف نشوة الحب وقوتها، حيث يشعر العاشقان أنهما قد خرجا عن نطاق الزمان، والنزعة الأولى اجتماعية والثانية شديدة الفردية ما جعلها مرتبطة بالكتمان الشديد وفضول لا حد له من الآخرين، الأمر الذي يجعلها مرتبطة في شريعة الامتداد والحرام والحلال والفساد والانحلال والثواب والعقاب.‏

وتخلص نجمة الصباح عن الحب في القديم والحديث، أنه جاء في بعض الأثر: «أريحوا النفس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد» أي الحب، وابن الجوزي لا يرى في ذم الهوى على الإطلاق لأنه خلق في الإنسان لضرورة بقائه، وإنما المذموم هو الإفراط منه.‏

ولعل فيروز بصوتها الملائكي وبكلمات الرحابنة وموسيقاهم تختصر كل كتب الحب بأغنيتها الجميلة:‏

يا ريت، انت وأنا بالبيت‏

شي بيت أبعد بيت‏

ممحي ورا حدود العتم والريح‏

والثلج نازل بالدني تجريح‏

يا حبيبي‏

وبحبك عاطريق غياب‏

بمدى لا بيت يخبينا‏

ولا باب‏

إنه الحب السري، الجميل، والمخبوء، كما أكدت نجمة الصباح، وغنت فيروز.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية