|
كتب
ذاك القتيل الذي يأتي الرثاء على لسانه هو عبد القادر المدرس ذو الأصل الاقطاعي والد الفنان فاتح المدرّس قتل على أيدي(الجتة) قطاع الطرق بتحريض من أبناء عمومته الطامعين بالميراث, خشية أن يتسرب هذا الميراث إلى خارج العائلة لأنه تزوج من فلاحة ليست منها هي (عائشة برازي) كان عبد القادر مناضلاً التحق بثورة الشمال الأمر الذي شكل دافعاً إضافياً للتخلص منه, وبدلاً من أن يسقط شهيداً ضد الانتداب سقط بخلاف عائلي وهو في السادسة والعشرين في معركة غير متكافئة إذ واجه خمسة عشر رجلاً من (الجتة) وحيداً. ولد فاتح المدّرس في 1922 م في مدينة حلب جده الأكبر الشيخ حسن بن عبد الرحمن الكلزي نسبة إلى (كلز) قدم إلى حلب وتولى التدريس في المدرسة العثمانية ولذلك اشتهر بالمدرس. بعد مقتل الأب تربى فاتح وهو في الرابعة مع أخيه في كنف أخواله, إلا أن أهل أبيه أخذوه, وجدته لأبيه أعادته إلى المدرسة. من حين لآخر كانت والدته تسرقهما إلى الجبال حيث قريتها ولذلك تميزت طفولته بالمراوحة بين المدرسة وبين الجبال, فكانت غنية بما علمته الطبيعة من حنو وقسوة بفصولها الأربعة. حاز الشهادة الابتدائية وبعدها انتقل إلى المدرسة النموذجية وبين سن السادسة عشرة والسابعة عشرة كان صديقاً لعمر أبو ريشة, وفي التاسعة عشرة بالجامعة الوطنية في عاليه, كان تلميذاً لمارون عبود الذي لقبه ب (جبران سورية) وكان يوسف الخال أيضاً من أساتذته, عرفه مارون عبود في تلك الفترة على أساتذة فن الرسم في بيروت مثل قيصر جميل الذي قال له: (ستكون رساماً جيداً بالمستقبل). ولكونه ابن اقطاعي طرد من الحزب الشيوعي وبسبب هذه الأصول الاقطاعية لن يذكر أحد أباه الشجاع كمقاوم في الثورة, طرد كذلك من الحزب السوري القومي لأنه اقترح أن تضاف إلى شعاره كلمة (عربي) ولأنه انتقد نزعته العسكرية, لم يطرده الزعيم أنطوان سعادة كما أكد وإنما كان يحبه, سلسلة الطرد لن تقف أو تقتصر على الأحزاب, فأثناء الحرب العالمية الثانية انتقل إلى الصف العاشر في الكلية الأميركية التي طرد منها أيضاً على يد الدكتور(كارلتون) إذ قال له فاتح عبارة هي:» دكتور لا تحسب أن الشعب السوري سلة بيض بين لصين) ولربما كانت مشاركته مع زملائه في الإضرابات اليومية هي السبب الحقيقي لطرده من الكلية. في عام 1957 أرسل فاتح في بعثة دراسية إلى إيطاليا مصطحباً والدته وزجته ابنة خالته »هالة) وهناك نشأت بينه وبين الفيلسوف جان بول سارتر صداقة متينة حيث تعرف عليه مصادفة أثناء هروب هذا الأخير من باريس بسبب خلاف إيديولوجي مع ديغول اقتنى سارتر أربع لوحات من أعمال فاتح, كما ترجم له أربع مقطوعات شعرية من الشعر الحر من الإيطالية إلى اللغة الفرنسية, لم تستمر الصداقة بينهما لأن اتجاه سارتر الإيولوجي تحول نحو دعم الصهيونية نتيجة علاقته بصبية يهودية عاشت معه في سنواته الأخيرة. لم تكن علاقة فاتح بالإبداع مقتصرة على الرسم فكتب الشعر والقصة القصيرة وبداياته بالسوريالية كانت خاصة بالشعر إذ كتب دون وعي منه بحداثة ما يكتب ونشر تلك القصائد في مجلة »القيثارة) هو و أدونيس »لقد كنا ننشر ما يخطر ببالنا من رؤى شعرية). بعد عودته من روما أخذ يعرض تجاربه الفنية الخاصة بصياغة تعبيرية وبالرغم من تأثره بالغربيين واطلاعه على أعمالهم »سيزان, رامباندت, أوغست رنوار, بيكاسو) ودراسته بمدارس الغرب, إلا أنه بقي متمسكاً بالهوية الشرقية ليتجاوز بذلك السوريالية نحو الواقع المرئي وبذلك قدم الفن الواقعي لكن بصورة متحررة مهتماً بالرموز والأساطير »فالرمز بملامحه الأسطورية يعبر عن حالة واقعية يعايشها الفنان). أما المرأة عند فاتح المدّرس فقد أحبها ذات ذكاء طبيعي »كلما ابتعدت في شروط وجودها عن شروط وجود الرجل.. فهي أقرب إلى النفس) أحب المرأة وبنى علاقته معها بقدر ما تكون لها أوصاف الشجرة والجبل والنهر.. لم يرد امرأته لا تشبه فحسب بل حتى لم يردها إنساناً عادياً وإنما طبيعة وبالمقابل فقد رأي الرجل ثرثاراً بائساً عنصراً معكراً للطبيعة. مع كل النجاحات التي حققها فاتح بقي يعتبر الإنسان بارعاً وليس فناناً والبراعة ليست فناً,» الإنسان بارع وحسب لأن الفن الطاهر مستحيل الوجود, إن سألتني السبب أقل لك: أعطني أثراً فنياً واحداً في تاريخ البشرية ليس متأثراً بفن من سبقه هذه الحقيقة إدانة للعقل البشري الغبي). الكتاب: جمر تحت الرماد - فاتح المدرس رحلة الحياة والفن - المؤلف: محمد جمعة حمادة - الناشر: دار بعل 2008م |
|