|
كتب ومع ذلك كما يقول أحد المفكرين (حتى موت أقاربنا,
ليس أعظم أمر لا يحتمله الإنسان فنحن محدودون في كل شيء, وموثقون فوراً, مثل كلب بسلسلته, وغير مؤهلين للديمومة, فليس لنا إلا حياة واحدة, بينما نشعر بأننا قادرون على أن نعيش ثلاثين حياة, إن أشكال العبودية تحاصرنا, وأكثر الأحاسيس الإنسانية مأساوية هو بالتأكيد الإحساس بالعجز) أمام الموت, وأمام الحتميات الطبيعية.. فقط من خلال هكذا مقدمة يمكن ولوج عوالم رواية (إلى الأبد و.. يوم) الحائزة على جائزة دبي الثقافية للإبداع - للشاعر السوري عادل محمود. عرفناه دائماً شاعراً وناثراً أما روائياً فقد كانت مفاجأة بحق, وهو يؤكد لنا بأنه الشاعر الذي لن يصبح روائياً وأن روايته هذه (إلى الأبد ويوم) تجربته الروائية الأولى والأخيرة. يستهل عادل محمود روايته بجملة شهيرة لفرانس كافكا: (أكتب غير ما أتكلم, أتكلم غير ما أفكر, أفكر غير ما يجدر بي أن أفكر!!) بعدها نبدأ بقراءة نص يتميز بلغة شعرية عالية المستوى تتخلله اقتباسات لكتاب وشعراء عالميين ومحليين ولعل الفيلسوف والمفكر الفرنسي غاستون باشلار نجده حاضراً أكثر من غيره في نص عادل محمود الروائي. (الفقدان) يبدو ثيمة أساسية في الرواية فقدان الإخوة, الأقارب, (المحبوب) ويحضر (الفقدان) كغول جريء ووقح وضروري وليكون شكلاً من أشكال الموت المتنكر. منذ الصفحة الأولى تعلم أننا أمام سيرة ذاتية ويتجلى الفقد بأكثر أشكاله دراماتيكية في فقدان (منير) شقيق بطل الرواية الذي هو بنفس الوقت السارد أو القاص, أيضاً نلمح ما يشي بشعور أصيل (بالخسران) حيال المعشوقة التي حملت اسماً غريباً وجميلاً هو عنوان لسيمفونية شهيرة لتشايكوفسكي (كسارة البندق). ما يحدث مع كسارة البندق يذكرنا أو يحيلنا إلى شيء ذكره سارتر ذات مرة في مسرحيته (جلسة سرية): (إن الشيء الرئيسي في الموت هو أنه يجعل ما سبقه غير قابل للتعويض, وإلى الأبد, أما التعذيب, والاغتصاب اللذان يتلوهما الموت, فأمران مخيفان فعلاً) إن الموت يحول الحياة إلى مصير واعتباراً من الموت, لا يعود بالإمكان أن يعوض شيء, ولا يعود للمرء سلطان على نفسه. السطور الأولى في الرواية تلعب دوراً في وضعنا على مشارف جمالياتها: (لا أحد بوسعه أن يقيدنا مثل القيد الآتي من التجسس على الذكريات, ثمة شيء ما نخفيه, لقد تعرفت إلى تلك الفتاة مبكراً كأكثر ما يكون التبكير, وعلى وجهها رأيت ما أسميه الرحيق الإلهي في ابتسامتها, ولا أعتقد أن في هذا الكون لمعاناً يشبه اللمعان الذي تخصصت عيناها في إرساله إلى القتلى لإحيائهم.. ولكنها مع ذلك بدت لي تفاهتها كأنها مصدر من مصادر الإلهام فهي صادقة, وكاذبة, نابذة وجاذبة, تبدو كمن يفهم الحياة, ولكنها في نهاية كل مئة متر من المسافات التي تقطعها في الحياة, تتعثر وتقع وتخدشها أسواق الطريق). الأسماء جاءت مدروسة وأتقن السارد استعمالها فنراه كيف يمارس ديكتاتوريته الجميلة فيستبدل اسم أمه (زهر البان) باسم (الجوكندا) لتظل راسخة على مدار الرواية كجوكنده الحنين والذاكرة جوكندا حياته?! عادل محمود يقدم نفسه كما هو في الحقيقة شاعراً مليئاً بانفعالات جمالية لا يشعرها إلا القلة من الناس, يتكتك مشاعره كموسيقا متوازنة منسقة منسجمة مع الطبيعة إلى أقصى حد, يتعايش مع منفاه دون أن يقتنع بأسباب نفيه لكن طالما الحلم يظل متاحاً ويتضخم أكثر بفعل البعد والنفي فإن الحياة تظل ممكنة والانفعالات جاهزة. وتظل الطبيعة هي ملاذه المحتمل دائماً والمتوفرة والمتجسد بقريته الجبلية النائية (عين البوم) التي نالها التغيير كما كل الأشياء وتم تعديل اسمها إلى (عين الورد) ربما مدللاً لنا بذلك على أن سذاجة البشر أمام الزمن تتجلى بتفضيلهم لزهرة هشة مؤقتة على بومة تهدل وفق وصفة الانتظار والأمل. مقتطفات من رواية إلى الأبد ويوم: قلت لها: تعالي ننضم إلى قافلة العشاق, أجدادنا, في هذا المكان, واقتربت منها, وأعتقد أننا حصلنا, في صميم الشعور بالحب على أفضل وأجمل قبلة في حياتنا, كان اقترابنا هذا محسوماً, لجهة براءتنا, أكثر مما هو إفصاح عن الميل إلى التمادي, فمع الحزن المضغوط المخبوء حتماً, في مكان ما, على وجه اليقين, تتقدم الوسيلة على الغاية, وإذا كان لشفتيها الآن, في هذه اللحظة, وفي هذا المكان, الطعم الإلهي الغابر للعشق القديم, بأنه سيكون جرعة من دواء مضاد للحزن.. رفة بجناح لإزاحة الخسارة ولجعل الفقدان, كفكرة واحتمال, أمراً مستحيلاً, والأكثر وضوحاً كانت القبلة أشبه بما يحدث حولنا, حفيف ورقتي دلب في غصن متدل على الماء, زقزقة عصفور في دغل مجاور, صوت خرير يعلو ويدنو تحت أوراق يتأرجح يباسها في الجدول الجاري. فجأة.. كيوم قيامة متخيل, أظلمت السماء فوقنا, كأن ورقة توت السماء العملاقة قد ترنحت وهبطت وغطت فوقنا الأفق وأصبحنا نحن والحصى الأبيض والصخور المضيئة في شمس نهار صاف.. أصبحنا جميعنا في العتمة. التجأت إلي, ولكن دون خوف, فقلت لها هذا (طائر الرخ) في حكاية سندباد, وهي من أجمل حكايات (الورطة والخلاص), تاه السندباد في جزيرة, وفي جولته فيها وجد قبة بيضاء فخمة مرتفعة وعلى مساحة واسعة, مشى حولها لكي يجد باباً للدخول, دار طويلاً وقاس المسافة فكانت خمسين خطوة كاملة, كانت ملساء وناعمة ويستحيل تسلقها. بعد لحظات أظلمت السماء, كأن سحابة هائلة قد هبطت منها فجأة, وقد أخفت نور الشمس. يقول سندباد: رفعت رأسي فرأيت أن السحابة ما هي إلا طائر مهول, له حجم عملاق وجناح واسع بدرجة غير معقولة, كان الطائر هو طائر الرخ والقبة البيضاء هي بيضته, ربط سندباد نفسه إلى رجل الطائر بعد أن جدل عمامته وربط نفسه بها, وعند الصباح أقلع الطائر العملاق واستقر على رأس جبل, دون أن ينتبه الرخ له. الرواية (إلى الأبد و... يوم) - المركز الأول لجائزة دبي الثقافية, الكاتب: عادل محمود, قطع متوسط في 171 صفحة. |
|