|
ثقافة وإذا كان: «نقدُ الشعر إبداعٌ آخر, النقد، بعامة، إبداعٌ مُركّب: وعيٌ للمادة المنقودة، ووعيٌ لصياغة هذا الوعي في سياقٍ فكري خلاّق», كما يقول «أدونيس»، فإن الإدلاء برأي نقدياً كان أم انطباعياً، أم وجهة نظر شخصية لأي تجربة إبداعية، إنما يحمِّل صاحبها عبئاً قد يفوق عبء المبدع ذاته وقد انتضى مشروعه الإبداعي وطلع به إلى القارئ ليكون مسؤولاً عن طرحه في وقت ما من تاريخ أمة من الأمم أو جيل من الأجيال... «وعندما نقول شعراً، نقول ضمناً الإنسان والوجود والصيرورة، وفي هذه تنطوي القضايا الكبرى كلها» - أدونيس. وعليه فإن الشاعر كغيره من الشعراء شغلته القضايا الكبرى: كالحياة والموت والغيب والإنسانية والوجود والمصير والحب والخلود.. وكغيرهم من الشعراء العالميين، فقد تأثر الشعراء العرب عميقاً بهموم وآلام أمتهم وما اصطرع على ساحتها قديماً وحديثاً، وحتى ولو بدت القضايا واحدة قديمها وحديثها، إلا أنها مصدر كتابة لاينضب، ويبقى الاختلاف بين تجارب المبدعين بمقدار ما يتمايزون به في طريقة التلقي وعمق التأثر والهمة التي يحملها كل منهم وجرأته في التعبير والطرح وإبداء المواقف والرغبة في التغيير. والشاعر لا يقف مكتوف الأيدي معقود اللسان أمام مواقف حديثة أو قديمة يتجلى فيها البطش بالمبدعين وقمع الأحرار لمجرد عدم الخنوع، فهو ينتقد الاستبداد وكبت الحريات وتعذيب المبدعين وإقصائهم، ويتبنى مواقف شخصيات حضارية مشرقة في التاريخ الإنساني كابن مقلة، وذي النون المصري، والحلاج والحسين والمسيح.. وسواهم في أكثر من نص، بل ويستلهم شخصيات بعينها من التاريخ استحضاراً أو قناعاً لتعبر عن قضية راهنة يعيشها. أما الهم الأكبر، فهو شعور الشاعر بالاغتراب، ونغمة الحزن العام نتيجة إحباطات متواصلة سياسية ومجتمعية وروحية: فهو مغترب وسط أهله وصحبه في محيطه الأصغر وفي محيطه الأكبر... وهذا دليل على أن الشعراء خاصة، والمبدعين عامة، يتفردون بكيفية حملهم همومهم وعمق تأثرهم فيحاولون التغيير فلا يستطيعون، فيلجؤون للبوح شعراً، فتنقلب القصيدة طائراً يحمِّله الشاعر ما يستطيع فإذا هي رسولة منذرة مبشرة بتنبؤات الشاعر ونظرته المستقبلية. أيضا ً شغل الشعراءَ الموتُ، هذا السر الأزلي الغامض لدرجة التساؤل عن سر المجيء إلى هذه الحياة، ولماذا إذا كنا سنصبح طعاماً للدود وأجساداً بلا أرواح نتترب في أديم الأرض؟ وهو هاجس المبدعين الباحثين عن الخلود والاستمرار، اللائذين بلب وجوهر الحياة، التاركين غثها وسخيفها للعابرين المارقين، لدرجة وكأن الشاعر نسي ما سيتركه من أثر خالد بموهبته وإبداعه، والذي سيبقى جيلاً بعد جيل، أمام الموت وسره الأعظم وأنَّ مروره لن يكون عابراً أليست هذه جوهر قصة جلجامش وأنكيدو في الحياة والموت والبحث عن الخلود في أقدم نص ملحمي شعري عرفته البشرية؟ الحب أيضاً هذا الشيء الجميل العجيب السامي العصي على الموت هو محور اهتمام الشاعر ومحور حياته لا بل ومركز توازنه وسبب بقائه في هذه الحياة، فأي نفس مرهفة يحملها هذا الشاعر في جنبيه؟ وأي ظمأ للحب هذا الذي لا يرويه إلا الحب نفسه، ومدى الحياة؟ لقد أفرد له الشعراء جل قصائدهم مصورين كل تلاوينه وانفعالات المحبين: التوحد التواد الخصام الالتقاء الفراق الهجران الوصال العذاب الغيرة.. وأخيراً، وبعد أن يكون الدهر قد حلب أغلب شطره، يخرج الحكيم من إهاب الشاعر ليقف بعد هذا العمر وهذه التجربة الغنية بالمعاناة المثقلة بتكبد المشاق، يخرج ليقف وقفة المتأمل الفيلسوف الحكيم الزاهد الذي أثقلته وصقلته التجربة والمعاناة في قصائد إنها رائعة مؤثرة، وليخرج منها بحكمة العمر وخلاصة التجربة الإنسانية. إن تجارب الشعراء عبر العصور إنما تنم عن موهبة أغنوها وصقلوها بثقافة واطلاع واسعين ومخزون ثر من القراءات المتنوعة الفلسفية والأدبية والتاريخية والتراثية والعالمية طبعت هذه التجربة الشعرية أو تلك لهذا الشاعر أو ذاك وبدرجات متفاوتة متغايرة بطابع فلسفي تأملي روحي إنساني لتبقى هذه التجارب مع غيرها من التجارب من أهم ما تنتجه التجارب الشعرية البشرية عبر التاريخ والتي تمهد دائماً لنظرة جديدة في الشعر والحياة.. |
|