|
دراسات لوجود أسلحة دمار شامل في بغداد, وفي ما بعد عن تورط بعض المسؤولين الكبار في إعطاء الضوء الأخضر لاستخدام أشكال متعددة من العنف على سجناء (غوانتانامو) ثم على سجناء (أبوغريب), تساؤلات عديدة حول آلية عمل الديمقراطية الأميركية, وعملية اتخاذ القرار في أعظم قوة عالمية قائمة. ومن نافلة القول: إن هذه التساؤلات قد أسهمت أيضاً في تقويض صدقية السياسة الأميركية المتعلقة بنشر الديمقراطية وفرض الإصلاح في البلاد العربية. فكيف أمكن في دولة بحجم الولايات المتحدة وقوتها ونفوذها أن يتم تزوير الحقائق والتلاعب بالمعلومات لتبرير حرب تبين التجربة كل يوم كم كانت قصيرة النظر, وكيف يمكن لمسؤولين عسكريين ومدنيين كبار في مثل هذه الدولة الحض على ممارسات لا إنسانية يخجل منها الرأي العام الأميركي نفسه أو التغطية عليها حتى اكتشافها من قبل أحد الصحافيين?! والسؤال الأهم هنا لا يتعلق بفشلها في فرض هيبتها وسلطتها بالقوة, بل أساساً بفشلها العسكري والسياسي في العراق, وقد أوصل هذا الفشل الكثيرين الى حد التساؤل عما إذا كان الانفلات الأمني في العراق سياسة أميركية. أي ما إذا كانت الولايات المتحدة تريد هذا التسيب الأمني لأسباب سياسية? فالمستفيد الأول من دمار العراق, هو (إسرائيل) إذ حتى قيام دولة مستقرة في العراق يقلق الإسرائيليين. لأن القلق الإسرائيلي لا يتعلق أساساً بالسياسات المتبعة, بل بقدرة الدول العربية على تحقق الاستقرار ومن ثم التنمية والسلام الداخلي والتي هي الأعمدة الأساسية للقوة. وهو ما تخشاه (إسرائيل) خصوصاً وأن استقرار العراق, لابد وأن ينعكس استقراراً على المنطقة ككل, وربما شكل نقطة الانطلاق للمنطقة برمتها. ما تفعله أميركا حالياً في العراق يؤدي الى التوتر والانقسام والتفتت الداخلي, وما تريد (إسرائيل) هو تفتت وضعف دائم في العراق والإدارة الأميركية الحالية ربما كانت أكثر الإدارات في تاريخ أميركا دعماً لإسرائيل وما فعلته الإدارة الأميركية في العراق يشهد على ذلك, إذ دمرت الدولة والمؤسسات, وأطلقت الفوضى واستخدمت أساليب العقاب الجماعي وأخيراً التعذيب والإهانة بحق المعتقلين. والمفارقة هنا, في الحالة الأميركية كبيرة, فالولايات المتحدة التي زعمت أنها ستحرر العراقيين, وبررت بذلك القصف الشديد لبلدهم, نراها الآن تسجنهم في ظروف قاسية لأسباب بالغة التعسف والاعتباطية. ذلك أنه ليس فقط من حملوا السلاح ضد الأميركيين هم من عوملوا بتلك الطريقة(وهو ما سيكون بالتالي غير شرعي, ولا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً), ولكن تعرض لهذه الممارسات أيضاً أشخاص كان ذنبهم الوحيد هو أن حظهم العاثر جعلهم يقعون في قبضة الاعتقال لدى الأميركيين. أليس من مهمات قوات الاحتلال العمل على عدم حدوث أعمال من هذا القبيل? ثم, ألسنا هنا نرى تكرار المنطق نفسه الذي أقيم على أساسه سجن غوانتانامو, والذي تم بموجبه استبعاد أي أثر للقانون الدولي, في ماشاع من اجراءات في ذلك السجن الرهيب?! هل كان التعذيب في سجن( أبو غريب( جزءاً من سياسة أميركية مقررة من أجل تحقيق أهداف أمنية أو غير أمنية, أم أن الأمر كان مجرد تجاوزات نفذها جنود منحرفون من دون توجيه القيادة العسكرية أو القيادة السياسية أو معرفتها?! من المهم للغاية ايجاد جواب مقنع على هذا السؤال الحيوي, خصوصاً وأن الاجابة تحمل دلائل ومؤشرات أساسية بالنسبة الى السياسة والأهداف الأميركية في العراق وعلى مستوى العالم. يقول وزيردفاع هندوراس فيديريكو برفيه : إن هناك احتمالاً بأن التعذيب الذي تعرض له معتقلون عراقيون على يد جنود أميركيين, مستنداً الى ماورد في كتاب يتضمن توجيهات باستخدام أساليب تعذيب أعده الأميركيون في الثمانينات لمقاومة المد الشيوعي في هندوراس. وتقول منسقة أسر المعتقلين المفقودين في هندوراس بيرتا أوليفا:(إن عمليات التعذيب التي نراها اليوم في العراق مصدرها الكتيب نفسه الذي استخدم في هندوراس في الثمانينات لتطبيق مبادئ الأمن القومي التي وضعها جون ديمتري نيغروبونتي). تقول المجندة الأميركية ليندي انغلاند التي ظهرت في الصور التي نشرتها محطة ال(سي.بي.اس) وهي تشارك بتعذيب العراقيين, إنها لم تبادر الى ما فعلت بإرداتها, وإنها تلقت تعليمات لتقوم بذلك من رؤسائها, وإن رؤساءها أشادوا بأعمالها, وتقول إنها تلقت الأوامر بأن تلتقط لها الصور وهي تقوم بتعذيب العراقيين. وفي الثامن عشر من شهر تشرين أول الماضي عرضت محطة (بي,بي,اس) التلفزيونية الأميركية فيلماً وثائقياً تحت عنوان (مسألة التعذيب) من اعداد واخراج المحطة, وضمن برنامج (الخط الأمامي) وتم خلاله عرض شهادات من ضباط أميركيين سابقين, قدموا فيها المزيد من الأدلة على وقوع حالات تعذيب منهجية واسعة النطاق. وفي هذا البرنامج أفاد السرجنت (روجر بروكاو) أنه عندما ذهب الى العراق أدرك أن المحققين الأميركيين يعتبرون أن كل عراقي يتم القبض عليه هو ارهابي. وقال عريف آخر هو (توني لاجورانيس) الذي خدم كمحقق في العراق إن ثقافة التعذيب سائدة في المعتقلات والسجون الأميركية في ذلك البلد,وأن أخطر ما شاهده هناك هو حالات تعذيب من يقبض عليهم في بيوتهم أثناء عملية القبض نفسها. وفي مقابلة مع (إيمي جودمان) المذيعة في محطة (بابليك /راديو) قالت الجنرال (جانيس كاربينسكي) الرئيسة السابقة لسجن(أبو غريب) والضابطة الوحيدة كبيرة الرتبة التي عوقبت بتنزيل رتبتها بسبب فضيحة إساءة معاملة المساجين هناك, إن اللوم فيما يتعلق بانتهاك اتفاقيات جنيف (يجب أن يوجه للمسؤولين من القاعدة الى القمة). وقالت كاربينسكي في هذا اللقاء أيضاً إن الجنرال (ميلر) الذي أشرف على سجن خليج غوانتانامو قد أرسل الى العراق بموجب أوامر من رامسفيلد كي يضفي الطابع ( الغوانتاناموي) على (أبو غريب) وذكرت كاربينسكي أن (ميلر) وبخ القائمين على التحقيق مع المعتقلين العراقيين لأنهم لا يتعاملون بدرجة الشدة المطلوبة معهم وطالبهم بأن يعاملوهم (مثل الكلاب). يستطيع المرء أن يتصور بسهولة, لو أن جنوداً عراقيين كانوا هم من مارسوا تلك الأفعال بحق جنود أميركيين أسرى لديهم مكان الرئيس بوش, سيسرع بتحميل النظام العراقي المسؤولية كاملة, وكان سيتعتبرهنظاماً لا يحترم المواثيق والقيم الدولية, وما كان الرئيس الأميركي سيقبل طبعاً بأي وجه نسب تلك الأفعال الى مجرد تصرفات فردية من جنود محبطين. ولم يكن الأميركيون ليعتبروا أن الأضرار الناجمة عن مثل تلك الممارسات هي أضرار محدودة أو حالات منعزلة. ولنصل الآن بالمشهد الى الذروة: ما الذي كان سيقع تحديداً لو أن جنوداً أميركيين تعرضوا للاعتداء الجنسي من قبل عراقيين?! أول ما يمكننا توقعه على الفور هو أن ردود فعل وإدانة واحتجاجات الحكومات عبر العالم ستكون بكل تأكيد أشد قوة ووحدة بكثير, وعلينا أن نقولها بصراحة ووضوح. وإن الممارسات الفضائحية وغير المقبولة لا تكون أقل مدعاة للاستهجان, ولا تفقد شيئاً من انحطاطها وشرها,فقط لأن أميركيين هم من اقترفرها. إن قوة الأميركيين اللامحدودة مثلما أنها تعطيهم حقوقاً فهي تفرض عليهم واجبات والتزامات عليهم الوفاء بها كاملة غير منقوصة. ولكننا, نشهد الآن, للأسف, سقوطاً أخلاقياً مريعاً, يبدو أن ما يتصف به جورج بوش والمحيطون به من توحد سياسي ونفسي يزيده سوءاً على سوء. إن الولايات المتحدة على أرض الواقع تعمل على تجسيد ما هو معاكس لما ترفعه من شعارات ومبادئ, تعلي من شأنها نظرياً. وهنا مبدأ (ازدواجية المعايير) لدى الأميركيين معززاً بالممارسة, على رغم كل هذا الانكار المتواصل الذي طالما كررته واشنطن. والسؤال هنا هو: كيف يمكن التفكير جدياً في محاربة الإرهاب, في الوقت الذي يتبنى فيه الأميركيون سياسة, تعطي بغض النظر عن الادعاءات والكلام الأجوف, انطباعاً باحتقار العرب والرغبة في إذلالهم وليس سراً أن العنف كان دائماً جزءاً من الثقافة الأميركية, وهو ما يجعل من أميركا صاحبة النسبة الأعلى في العالم في الجرائم والتجاوزات, سواء في الحرب زم في السلم, وذلك منذ أن قامت الولايات المتحدة فوق مقابر مئات الألوف من أهل البلاد الأصليين. كما تظهر أساليب الجيش الأميركي في التعامل مع العراقيين السجناء والطلقاء, أن الأميركيين لا يأبهون كثيراً لآراء الشعب العراقي والشعوب العربية بهم. وتظهر بأنهم مستعدون للقيام بأي شيء من أجل استمرار السيطرة على العراق, حتى من دون أن يستقر. المهم فقط استقرار النفط, وضمان الوجود العسكري.والعراقيون, كما أظهرت فضيحة سجن (أبو غريب) مثل (الهنود الحمر) يفترض أن يقبلوا بأي شيء مهما يكن ما تقرره الولايات المتحدة الأميركية. |
|