تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


روسيا مختلفة .. دوراً ومصالح جديد ما يتبلور في التوازن الإقليمي والدولي

دراسات
الثلاثاء 20/12/2005م
كاتب لبناني

روسيا على الخط من جديد, لكن روسيا الجديدة مختلفة عن روسيا الاتحاد السوفييتي وزنا, وقيمة ودوراً, ومنطقاً, ومصالح, والتزامات, وأهدافاً.

روسيا على الخط, هذا ما يمكن قراءته من أحداث وتطورات متسارعة حفلت بها المرحلة القليلة الماضية ومن أهمها الاتصال بين الرئيس بوتين والرئيس بشار الأسد بعد إعلان سورية قرارها التعاون مع لجنة التحقيق الدولية بمقتل الحريري, حيث تقرر أن روسيا باتت طرفاً أساسيا في تقرير الموقف في مجلس الأمن, وفي تقديم الضمانات المادية لسورية تشجيعاً لها على التعامل مع القرار 1636 وتطمينات على أعلى المستويات الروسية بأن شيئاً لن يكون بحق سورية, وبأن مجلس الأمن لن يستخدم أداة لتأديبها أو لمحاصرتها لغاية عند أمريكا وحلفها الاوروبي المستجد, وبأن كرامة سورية وقرارها الوطني وأمنها وحصانته مصونة بمجرد أن تتعاون بالشروط التي تحفظ قانونها وسيادتها الوطنية.‏

على خط آخر متصل, تحركت بطريقة لافتة جهود أوروبية لتفويض روسيا في البحث عن معالجة هادئة للملف النووي الإيراني بعد أن كانت أوروبا بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية تحتكر لنفسها مهمة المتابعة والتهويل والتضييق على إيران, وتهدد بتحويل الملف إلى مجلس الأمن وتركز جهدها لاستبعاد أي دور روسي في معالجة الملف باستثناء الدور المقرر عنوة في حكام وكالة الطاقة.‏

في مكان آخر ليس ببعيد ظهر دور لروسيا غير الدور التقليدي الذي وقفت عنده بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودخولها مرحلة انهيارية ثم انتقالية لم ترس تماماً على نهاية استراتيجية, ففي البيئة المباشرة لها بدأت سلسلة أنشطة هجومية, من جهة إعادة تنظيم علاقاتها بمحيطها المباشر السوفييتي السابق بعد أن فقدت مواقع حاسمة في أوكرانيا, وجورجيا وبعض دول آسيا, غير أن همتها اختلفت منذ سنة ونيف, وعادت تبحث عن موقع ودور إثر ادراكها خطر السلبية والحياد وترك الحبل على غاربه وما يمكن أن يوفره من اقتراب النار إلى بارودها بعد أن أشارت الوقائع والتطورات العملية إلى أنها مستهدفة من قبل التحالف الأمريكي الأوروبي المستجد وأن عملية تطويقها بالثورات الملونة والقواعد العسكرية وامتددات الناتو تستهدف عزلها لمحاصرتها فإسقاطها وتفكيكها وإزالتها عن الخريطة السياسية لكونها تهديداً مستقبلياً للمصالح الاميركية الاوروبية والتوجهات الامبراطورية والعولمية.‏

في هذا السياق سجل خلال الفترة القريبة المنصرمة تطور متسارع وتفاهمات نوعية ذات طابع استراتيجي بين روسيا, الصين, الهند,ايران, تكرست في منظمة شنغهاي والقرارات التي اتخذتها قمتها الأخيرة بالطلب الفوري من دول أسيا تصفية القواعد والوجود الأمني والعسكري الأميركي فيها, كما في الاكثار من المناورات العسكرية المشتركة الروسية الصينية والروسية الهندية التي أرقت البنتاغون واستوجبت تحركات للقيادة الأميركية باتجاه الدول المعنية وجاءت زيارة رئيس الوزراء الصيني إلى روسيا والبيان النوعي الذي صدر عن الرئيسين الروسي والصيني بما خص مجلس الأمن والعلاقات الدولية ورفض الدولتين لاستخدام المنظمة الدولية مجلس الأمن لتمرير مصالح الدول الكبرى على حساب الصغرى والتدخل في الشؤون الداخلية وفرض مصالح أميركا على الآخرين, إلى ما تم في قمة رابطة الدول المستقلة " السوفييتية السابقة" كتكليف روسيا العمل على حصر خطر اندفاع الناتو إلى محيطها والعمل على وقف توغله.‏

في السياق العام يمكن تسجيل وضبط الكثير من الأدلة على تحول في دور وموقع روسيا, وفي مبادراتها, وتغيير في طريقة التعامل الأميركي الأوروبي معها.‏

الجديد في الموقف والدور الروسي ناتج عن ماذا?‏

هل هو مؤشر يكشف سعي روسيا للعودة كلاعب دولي واقليمي له مصالح ورؤية مختلفة?‏

أم مساحة جديدة تعطيها أمريكا وأوروبا لروسيا بقصد توظيفها لصالح إنقاذ المخططات وحل العقد المستعصية?‏

أم تفاهمات دولية جديدة لتوسيع دائرة التفاعل وإدخال روسيا فيها بعد أن انحسر النظام العالمي بمواصفات أميركية متفردة وتحول إلى تفاهمات أمريكية أوروبية بعد حرب العراق لم يحقق المطلوب, بحيث بات يستوجب تحالفات جديدة تقوم على التفاهمات ثلاثية أميركية اوروبية روسية بقصد استبعاد الصين والهند ودول الجنوب والاستفراد بها على أنها الخطر القادم على الهيمنة الأميركية الاوروبية الاقتصادية والسياسية العالمية.‏

منهجياً وعلمياً لا يمكن تجاوز أي من الاحتمالات العديدة لتفسير الجديد في عودة روسيا إلى اللعبة الدولية والإقليمية, فالاحتمالات كلها ممكنة ولا سيما أن روسيا بوتين غير روسيا الشيوعية, ودورها ومصالحها وأهدافها مختلفة جوهرياً عما كانت, وكذلك آليات ودوافع اتخاذ القرار والتعبير عن المصالح ناهيك عن طبيعة المصالح ذاتها.‏

وفي جميع الأحوال فروسيا التاريخية قبل أن تكون اشتراكية, وبعد أن تغيرت وانقلبت على اشتراكيتها هي دولة قطبية, كبيرة بعدد سكانها, وبمساحاتها وثرواتها الطبيعية, وثرواتها العلمية والبشرية وقدراتها العسكرية والتكنولوجية, لايمكن ومن غير الجائز استضعافها إلى الحد الذي يفترض أنها لاشيء أو كأنها دولة من دول العالم الثالث متخلفة لا حول ولا قوة لها, تلك الطريقة التي عوملت بها على يد الإدارات الأميركية المتعابقة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ودخولها مع يلتسن مرحلة انهيارية بكل معنى الكلمة فروسيا القيصرية استمرت لاعباً أساسيا في أوروبا وآسيا, خاضت الحروب الكبرى, وتاريخ اوروبا هو تاريخ روسيا ودورها كما هو تاريخ حروب المانيا ودورها وفرنسا.‏

روسيا المتماسكة بالحد الأدنى, والساعية إلى احتلال موقع تحت الشمس يناسب قوتها وقدراتها العائدة إلى مرحلة النمو الاقتصادي بعد الانهيارات المتتالية نسبة النمو تجاوز 7% والمستفيدة من ارتفاع اسعار النفط والحاجة إليه, مهما كان طابعها الاقتصادي وخياراتها هي دولة تريد محيطاً آمنا, وتريد بيئة مستقرة, وتسعى لتعميم نموذجها وفرض منطقها في محيطها على الأقل تماشياً مع منطق الأشياء وساعية إلى فرض وجودها على الساحة الدولية والإقليمية, وروسيا بطبيعتها الرأسمالية أكثر حسماً وهجومية وجدية في التعبير عن مصالحها والسعي لتحقيقها من روسيا الاشتراكية المثقلة بالهموم والأيديولوجيا الاجتماعية الإنسانية والحاملة لأعباء نصف البشرية في تقاسم نفوذ مكلف لها ومربح للرأسماليات الغربية والأميركية وبالتالي فمن المنطقي القول إن روسيا المتحررة من حالتها الانهيارية لابد أنها باحثة عن موقع تحت الشمس وبين الأمم و قد دقت الساعة بعد أن غرقت أمريكا في وحول أفغانستان والعراق وباتت في طور التراجع والاستنزاف, وعلى أثر العجز الواضح على النخب الأوروبية الحاكمة عن التحول إلى مشروع إمبراطوري ليبرالي بسبب طبيعة الأمم الأوروبية وقيمها ونموذجها ما أدى إلى حالة ارتباك في أوروبا واتحادها وإداراتها بعد أن حاولت التصالح والانخراط بالمشروع الاميركي لاستعباد العالم, فالأزمة الألمانية, والأزمة الفرنسية وعجز بريطانيا بلير عن قيادة الاتحاد ومجمل حالة الارتباك التي يعيشها الاتحاد توفر فرصة ذهبية لروسيا لأن تسعى للعودة إلى الساحة قوية ذات أثر لا يمكن تجاهله.‏

مأزق أميركا وأوروبا في ملفات الشرق العربي والإسلامي تستلزم أيضاً عودة لروسيا, بل تضطر أمريكا واوروبا لتخفيف القيود عن تلك العودة إن لم نقل تشجيعها, ذلك لافتقاد واشنطن وتالياً أوروبا بعد انقلابها على سياساتها السابقة وتحالفها مع واشنطن لأبسط أدوات وقواعد التفاهم مع القوى الصاعدة في المشرق, فالانكسار الحاد في العلاقات السورية الفرنسية الأميركية, ورفض اسرائيل وأميركا دوراً لتركيا استوجب دوراً روسياً لتلطيف الأزمة ووقف الانهيار والاستعصاء والحال: فليس غير روسيا يمكن أن تلعب هذا الدور حيث تتحقق مصالح الجميع, مصلحة روسيا, ومصلحة سورية, ومصلحة أميركا وأوروبا.‏

وأميركا التي لا تملك خطوط اتصال بايران: وانهيار خط الاتصال الذي مثلته الترويكا الأوروبية بعد التفاهمات الاميركية الاوروبية ووصول العلاقة الإيرانية الأميركية الاوروبية إلى الزاوية القاتلة وحالة الاستعصاء القصوى مع إصرار إيران على فرض حقها وتحديها للضغوط الاوروبية والأميركية وقدرتها على الدفاع عن هذا الحق وتلويحها باللجوء إلى الرد العنيف إذا ما تعرضت لعقوبات أو لعدوان, بدوره اقتضى دوراً لا يمكن لأي جهة أو دولة أن تلعبه سوى روسيا حصراً هكذا تجمعت معطيات نوعية استوجبت عودة روسيا على الخط كحاجة لكل الأطراف وكمكسب لروسيا وإيران ودول الجنوب عموماً بما يزيد عن حاجات التحالف الأوروبي الأميركي الذي يقبل بالدور الروسي عنوة وللخروج من مأزق وضع نفسه فيه بسبب حسابات ورهانات وتحالفات خاطئة من الأصل.‏

عناصر شتى كلها موضوعية, تعبر عن حاجات ماسة, وحاجات تاريخية استوجبت عودة روسيا ووجودها على الخط, والخط هنا هو الخط الفاصل في تقرير مستقبل المنطقة والدول وأوزانها وقد تبين أن روسيا هيأت نفسها واستعدت للعودة والبقاء على الخط.‏

روسيا تلعب دور الملطف للأزمات والمخدر لعناصرها بانتظار تحولات ما في الغيب.‏

أميركا واوروبا تلوذ بروسيا لوقف التدهور والسعي لإيجاد مخرج لأزمات متفجرة.‏

أميركا تنهار في العراق, واوروبا تتأزم في داخلها ومع مناطق نفوذها التقليدية.‏

فروسيا المحمية بقدراتها القطبية, وبتحالفاتها الآسيوية قادرة على تغيير التوازنات في المنظمة العالمية وتوجهاتها وتالياً في وظيفة ودور مجلس الأمن, ما يغير في المعطيات وموازين القوى ويحل مشكلة أقامت منذ غاب الاتحاد السوفييتي ولم تزل.‏

جديد ما ينشأ في التوازن الدولي والإقليمي تولده المقاومات العربية والاسلامية.‏

فلنتعرف إلى ماهو آت, ربما يكون خيراً على العرب والمسلمين, ومؤشراً على انكسار الهجمة وتحولاً في النظام العالمي إلى نظام متعدد القطبية متوازن متنافس.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية