|
ثقافة وغدا تاريخ الانسان مرتبطا بشكل وثيق بالتكنولوجيا التي حولت عالمنا الى غابة من الموز والارقام, ومن المعروف وراء كل اختراع حاجة ملحة، من هنا يحضر القول، الحاجة ام الاختراع،ولكن ثمة اختراعات وتكنولوجيا لم تستدع الحاجة الانسانية الحقة اختراعها، بقدر ما استدعته تجارب تدجين وتهجين الانسان وتحويله الى آلة صماء عمياء مسيرة من بعد، صحيح انه من لحم ودم، ولكن ثمة مهندسون وعلماء تكنولوجيا وبيولوجيا اعادوا تشكيله وتحويله, ناهيك عما فعلته به سطوة الالة التي تراكمت في القرن الماضي, وطغت في القرن الحادي والعشرين.
هذه حال المفكر السوري شاكر مصطفى يطلق صرخته الهامة ذات يوم حين قال في كتابه حضارة الطين: لقد جعل العلم منا انصاف آلهة قبل ان نستحق ان نكون بشرا, والواقع هذا هو الذي دفع بمفكر مثل احمد حيدر ليصدر كتابا تحت عنوان: نحو حضارة جديدة، وكان الامر قبيل سبعينيات القرن الماضي، لم ينتبه كثيرون للكتاب وما حمله، ولا الى الباحث وما قدمه واضاء عليه، واليوم ونحن نتلقف ما يقوله الغرب ومفكروه تحديدا نستذكر هذا الباحث الذي نبه الى ضرورة الانتباه الى ان الولايات المتحدة الاميركية تحاول امركة العالم, واطلق على ذلك مصطلح الاميركانية، وهي الاميركانية في المحصلة تموه الصراع الجذري بين عالم ذوي التقنية وعالم المستلبين بصراع عرضي بين ذوي التقنية انفسهم، وبذلك تلهي المستلبين عن ان يختاروا وجودهم الحق فيعملون على استكمال ماهيتهم الانسانية بتحصيل ابعادهم، وذلك بالوقوف اولا بوجه ذوي التقنية. وحسب حيدر فإن الاميركانية ليست عدوة الشعوب المستلبة وحسب ولكنها عدوة شعوبها ايضا، فهي تعمل على خلق المواطن الهادىء المريح في كل مكان، وذلك عن طريق سلب الابعاد الحقة، وصنع الابعاد الزائفة، عن طريق اغراق الانسان في اللحظة الحاضرة بواسطة الجنس والضجيج واللامبالاة, وهي تحقق ذلك بنفسها في بلادها، وتعمل في البلاد الاخرى على خلق حكومات صمت وتعمية تكون بمثابة وكالات خارجية للتصدير. ان الاميركانية كما يضيف حيدر هي: نزعة واعية ومدروسة وهي تعمل في ضوء تخطيط شامل قوامه تقنية تستند الى شتى العلوم، انها سياسة ذوي التقنية من اجل اخماد روح العصر وتحقيق المزيد من الانخلاع الانساني، والانسان المعاصر يصرخ محتجا من خلال الادب والفن والفلسفة والمصحات النفسية وحوادث الشذوذ، ناهيك بصراخ الشعوب المستلبة التي تعاني اعمق الانخلاع، انها محنة الحضارة الانسانية التي لابد من مخرج لها. كان هذا قبل نصف قرن تقريبا ولم تكن الثورة التكنولوجية قد اخذت هذا المد الكبير، ولم يكن التدفق المعرفي قد وصل الذروة التي نراها الان وان كانت الارهاصات تدل على اننا في سباق محموم من اجل خلع الانسان عن انسانيته واستعباده بطريق جديدة يكون فيها كما لو انه بكامل رضاه وقواه العقلية يريد هذا الاغتراب، الذي اسماه احمد حيدر الانخلاع، وهو اليوم استلاب واحتلال واغتراب واحتراب وابتعاد عن كل معاني الانسانية وتحت شعارات الانسانية نفسها. سطوة الألة انه الانسان الذي اخترع الالة وصار عبدا لها اعطاها كل عبقريته لتعود وتهندس سلوكه وحياته ومن ثم فيما بعد تعمل الى تحويله هو الى آلة يديرها انسان آخر، ولقد تنبه بوكانان في كتابه الهام (الالة قوة وسلطة التكنولوجيا والانسان منذ القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر) تنبه الى خطورة قوة الالة التي توفر قوة قهر ووصل الى حد اطلاق مصطلح الجبرية التكنولوجية الكاملة والنادرة، هذه الجبرية الان نراها في كل شيء، فلم يعد الانسان بعيدا ولو في ادنى بقاع الارض عن تأثير الالة وقهرها وما تتركه من اثار، لقد تحول الى مجرد رقم في المصرف، ورقم في الهاتف المحمول، وشيفرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكبسة زر لإدارة وتشغيل وتحريك الالة، وبعد ذلك كله انتقل الامر الى سلوكه وجيناته وتعديله، ومن ثم تحويله الى آلة تسير وتعمل وفق الطلب، الامر الذي حدا بفرانيسي فوكوياما الى التخوف مما سماه (عواقب الثورة البيوتكنولوجية) وكيف ان هذه البيوتكنولوجيا قد استباحت طبيعة البشر وكرامتهم وانفلتت من عقال السياسة والامر الذي دفعه الى التأكيد على اننا لسنا عبيدا لتقدم تكنولوجي محتوم، اذا كان هذا التقدم لايخدم غايات الانسان، وهو ما يستتبع التنبه الى ان التلاعب بالبيولوجيا قد يقودنا الى عالم ما بعد الشر، وهو عالم تختفي فيه البيولوجية التقليدية للانسان ويكثر فيه التهجين، الامر الذي قد يقود الى انهيار فكرة الانسانية المشتركة، ولذلك كما يقول رشيد الحاج صالح في عالم الفكر الكويتية العدد الاخير 43, لذلك نجده يركز على ضرورة التمعن جيدا في معاني الثورة البيوتكنولوجية والاحاطة بتداعياتها السلبية ونتائجها الكارثية على مستقبل الانسان والانسانية، غير ان المخاوف لاتقتصر على البيوتكنولوجيا، بل تمتد الى التكنولوجيا ذاتها بوصفها التقنية التي امدت الحروب بكل انواع الاسلحة ومن مختلف الاصناف حتى وصلنا الى حافة الابادة الذرية. وظهرت البيوتكنولوجيا لتعيد صناعة وهندسة الانسان من جديد، فمن المعروف ان مختبرات البنتاغون تعمل على تطوير برامج تقنية هائلة تحدد مناطق الشعور في الدماغ والخلايا وتجري تجارب عليها، وقد نجحت في الكثير منها وزرعت نبضات في الدماغ تتلقى الاشارات وتفهمها وتحولها الى سلوك، وقد عبر عن ذلك آل غور نائب الرئيس الاميركي الاسبق في كتابه المترجم الى العربية تحت عنوان: المستقبل، واشار الى ان الصين ربما تسبق الولايات المتحدة في هذا العلم, ومن المعروف ان الولايات المتحدة لاتجري تجاربها حبا بالانسان وتطوير قدراته، انما من اجل اعادة تدجينه وتطويعه، وهذا جزء اساس من الحرب الناعمة التي تداخلت فيها كل الوسائل وتشابكت وتضافرت لتغدو سلاحا رهيبا اشد فتكا من الذرة، ليقول احد الفلاسفة ان التكنولوجيا غدت ايديولوجيا، وهي الايديولوجيا الاكثر فتكا واستلابا للانسان، ولافكاك منها الا باستعادة التقنية الى مربع الانسانية وليضع العالم ضوابط اخلاقية لها تحميه من الاندثار وتحويله الى مهرج في سيرك يسير عن بعد. |
|