|
ملحق ثقافي في سورية كرم مرات ومرات ومنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، أقيمت عشرات الندوات التكريمية له، وكذلك في محافل عربية وعالمية، كان رحيله مناسبة لإعادة الحديث عن الرواية التي قال عنها إنها ديوان العرب، في الصحافة العرب شغل الرحيل مساحات كبيرة، ومن مصر الشقيقة يكتب يوسف شعبان في أخبار الأدب مقالاً مهماً جداً حول حنة مينة، يعرج فيه على الشائعات التي تطلق على الفنانين والكتاب والمبدعين، ويتوقف عند إبداع حنة مينة يقول شعبان.
هناك عادة سيئة، سادت مؤخراً منذ عدة عقود، وهي عند وصول كاتب معين إلي السبعين أو الثمانين من عمره، تبدأ شائعات الموت تلاحقه من هنا أو هناك، ونجد أن صحفا مرموقة تنشر الخبر دون أن تعتذر بعد اكتشاف عكسه، وكأن الميت الذي استبيحت حياته بهذا الشكل ليس له أدني حرمات، حدث هذا مع الشاعرة الرائدة نازك الملائكة، ونشرت الخبر صحف ومجلات عديد عام 1999، ومن بين هذه الصحف جريدة الحياة.. وحياة حنا مينه التي بدأت واستوت علي الأرض منذ سنوات بعيدة، كانت مليئة بالتجارب المؤلمة والتفاصيل الحادة والمنعرجات الخطيرة، للدرجة التي أصبح الكاتب العربي الذي خاض كل المهن الدنيا، تلك المهن التي تدعو لليأس، ولكن روح حنا مينه الوثابة، كانت تقفز بخفة عصفور علي تلك الحواجز، ومن الجميل أنه حكي عن تلك الحيوات والتجارب القاسية بيسر شديد، وكذلك وضع موازياً إبداعياً لتلك الحياة وهذه التجارب في ثلاثية روائية، بدأها بروايته السيرية “بقايا صور”، وقدمتها الكاتبة الدكتورة نجاح العطار، وهو الكاتب الذي كاد أن يكون أميّاً، وهي الكاتبة والدكتورة، وقد وصل بها الأمر لكي تشغل منصب وزيرة الثقافة لزمن طويل. ويعدّ حنا مينه من أكثر الكتاب السوريين من جيل الرواد، قيمة وغزارة ودأباً واستيعاباً لتفاصيل الحياة، حتي إن رفيقه سعيد حورانيه، كان قد أهداه كتابه “شتاء قاس آخر”، وقال له فيه: “إليك يا حنا مينه، يا من فهمت ماهية الضعف البشري والقوة الإنسانية، أقدّم هذه القصص”، ومنذ الوهلة الأولى يشعر المرء بأن هذا الإهداء يأتي كمبالغة في مديح الكاتب وتقريظه، فكيف يجتمع الضعف البشري والقوة الإنسانية في إدراك ووعي شخص أو كاتب واحد، فالطبيعي أن الإنسان الذي عاش قدراً عميقاً من البؤس، هو الذي يدرك تفاصيله، ولا مجال هناك لإدراك أي تفاصيل أخرى، ولكن الأقوياء نفساً ووعياً وروحاً يقدرون علي إدراك تلك التناقضات، وكذلك هؤلاء الذين خاضوا التجارب الإنسانية الوعرة، واستطاعوا أن يستوعبوها، ثم يتجاوزا العوائق والفخاخ التي نصبت لهم. وفي مقدمته التي كتبها الشاعر والقاص والناقد شوقي بغدادي لرواية حنا مينه الأولى، وهي “المصابيح الزرق”، والتي صدرت عام 1954، أشاد إشادة بالغة بصديقه الكاتب الجديد، ورحب بروايته الأولى أيما ترحيب، ومن الطبيعي أن يمارس كاتب المقدمة نوعاً من “الأستذة” على المبدع، حتى لو كان ذلك المبدع متفوقاً عن كاتب المقدمة، والذي يشبه في كثير من الأحيان، “الوصيّ” علي المبدع وإبداعه، لكننا لم نفقد ذلك التعاطف الذي أبداه بغدادي مع صديقه حنا، حيث إن بغدادي سرد لنا في مقدمته العاطفية، كيف أنشأ حنا روايته، وكيف كان يأتي لهم كل فترة ليحكي لهم ما حدث، وما أنجزه، وهكذا كانت تدور حوارات بين حنا ورفاقه، وتبعاً لذلك كان حنا يعود إلى منزله، ويعمل علي خطط الحذف والإضافــة بعــد حــواراته الثرية، ولكنه كان يعمل ذلك بروح المنشئ الوحيد، والذي يعرف أسرار أبطاله فارس والمندليف ومكسور المبيض وكل أبطـال الـرواية أكـثر من غـيره، فهـم رفاقـه وأصحابه وربما بعض أبناء عائلته، وبالتأكيد فحنا نفسه متمثل في تلك الرواية بأكثر من شكل. فالرواية تدور في اللاذقية، مسقط رأس حنا مينه، وكذلك كانت اللاذقية هي ملاعب صباه وشبابه الأول، ومحطة بؤسه الذي عاشه بكل جوارحه، وأيضاً كانت محلاً لنزواته العاطفية الساخنة، والتي نهضت بقوة في روايات أخرى، مثل الشراع والعاصفة، وبقايا صور، والياطر، ولكن “المصابيح الزرق”، وهي كما أسلفنا روايته الأولى، تلك الرواية التي تدور في أجواء الحرب، في اللاذقية، رغم أن وطيس الحرب العالمية الثانية، وهي الحدث الذي تجري فيه أحداث الرواية، لم تكن اللاذقية مسرحاً أساسياً لها، مثلما كانت دمشق، ولكننا نعلم بأن الحرب كانت تتسلل إلي كل أطراف البلاد، ولكن بنسب ومستويات مختلفة. ورغم أن الحياة الثقافية العامة تعرفت علي حنا مينه بشكل واسع من هذه الرواية “المصابيح الزرق”، إلا أنه كان قد طرق الحياة الأدبية منذ عشر سنوات خلت قبل هذا التاريخ، إذ أنه بحكم ارتباطه باليسار واليساريين، نشرت له مجلة الطريق عام 1945، قصة قصيرة، وكان عنوان القصة “طفلة للبيع”، وكانت القصة ساذجة وصارخة وواعدة في آن واحد -حسب وصف وتعبير محمد دكروب-، وشغلت القصة مساحة أقل من صفحة واحدة من المجلة. هكذا نلاحظ أن حنا مينه الذي تجاوز العشرين بعام واحد، وكان غارقاً في العمل السياسي، وبالتالي كان متأثراً بوجهات نظر الرفاق، الذين يتعاملون مع الفن وفقاً لقيم اجتماعية، تخلو تقريباً من شروط الفن إلى حد كبير، ولكن هذا الشاب المكافح، والذي عمل في مهن كثيرة متدنية، وخبر المجتمع في مستويات عديدة، استطاع أن يتجاوز تلك المنعطفات الأدبية، والمحكوم عليها بالرداءة، ولدينا حفنة ضخمة من هذا الأدب الرديء الذي كان يخضع لتلك المواصفات النقدية الهاتفة والهادفة، والتي أفسدت الفن والفنانين والمتلقين معاً، ولأن كاتباً كبيراً مثل نجيب محفوظ خرج عن هذه الوصايات وتلك التحفظات التي أبداها بعض الممتعضين تجاهه، ولم ينصت إلا لروحه المبدعة، صار نجيب محفوظ الذي نعرفه. كذلك حنا مينه الذي كتب قصته الأولى “طفلة للبيع” وفقاً للمواصفات التي كانت مطلوبة آنذاك، ولم يلتزم بها في تطوره فيما بعد، وكتب روايته الأولى بعد تطورات عنيفة في عملية الخلق الفني لديه، لم تحظ الرواية بذلك الرضا اليساري في ذلك الوقت، وكذلك جاءت روايات حنا مينه فيما بعد، خارج دستور الوصايا، ولوائح النقد الأدبي التي كانت مقررة على المبدعين في ذلك الوقت. والمدهش أن حنا مينه ذاته، كان ملتزماً سياسياً على المستوي النثري، ولكنه كان عندما يبدع يلقي بكافة أفكاره خارج ذاته، ويطلق أجنحة الإبداع على آخرها. قبل أن يقفز إلي عمر الثمانين بشهور قليلة، ذهب حنا إلي صديقه محمد دكروب، وقال له وهو يحمل هموماً شتى: (يا محمد! تعبت! اكتفيت ! أتوب عن الكتابة.. الكتابة عذاب يومي.. صار يحق لي أن أرتاح!). طبعاً هي حياة طويلة ومريرة وقاسية، عندما نشر حنا قصته الأولى، كان يعمل في دكان حلاق في مدينة اللاذقية، ترك المدرسة، وكان مضطراً، وتشرّد مع والديه وأخواته الفقراء جداً، ثم هاجرت أسرته من اللاذقية إلي لواء الأسكندرونة، ومن الأسكندرونة بعد أن سرقه الأتراك، وفصلوه عن سورية، بالتعاون مع الفرنسيين، تشرّد بجدارة مع عائلته في كافة أنحاء سورية، ليجد نفسه بعمل عدة أعمال بائسة، ثم يعود إلي موطنه الأصلي اللاذقية ليعود إلي مهنة الحلاقة مرة أخرى، وكان يمارس القراءة والكتابة في ذلك الوقت، تحت وطأة تلك الظروف التي كتب فيها قصته “طفلة للبيع”. أصدر روايته الأولى “المصابيح الزرق” 1954، والتي كما أسلفنا تحكي قصة أهله أثناء الحرب في اللاذقية، وتحت وطأة الجوع والفقر وكافة مآسي الحرب المعروفة، ولكنهم رغم كل ذلك كانوا يناضلون من أجل التحرر بجميع صوره، التحرر من الاستعمار ومن الاستتبداد المحلي ومن الجوع والفقر، والإصرار علي التعلم، وتجاوز كل أنواع الجهل. ثم جاءت روايته الثانية “الشراع والعاصفة»، وهي تحكي هموم ناس البحر، وتعد هذه الرواية إحدى الروايات المؤسسة لأدب البحر، وهي تسرد ملحمة نضال وكدح إنساني عارم في مواجهة عواصف البحر العالية، أما روايته الثالثة »الثلج يأتي من النافذة»، تصور كفاح وقتال مناضلين سوريين منفيين في لبنان، وفي ظروف العمل السري، وتتعدد فضاءات رواياته وأماكنها، كما يخبرنا محمد دكروب، وفي روايته »بقايا صور»، يترك لنا حنا مينه نفسه وأجنحته لكي يحلق بنا في فضاء حياته هو، حياته عندما كان طفلاً وصبياً وشاباً، وتكتب عنه د. نجاح العطار دراسة طويلة، لترصد فيها تفاصيل حياته، وأشكال تطوره الفني. لم تكن مساهمات حنا مينه في الإبداع الروائي والقصصي فقط، بل كتب كتباً كثيرة في النقد الأدبي، وله كتاب عن ناظم حكمت، استطاع فيه أن يرصد بضع ملامح وقسمات لهذا المناضل التركي العظيم، وبالتأكيد كانت حيوات هؤلاء المناضلين تستهويه، ويعمل علي تحليل نصوصهم الفارقة، ويجد فيها عزاء له، إذ إنه لم يترك موقعه السياسي كيساري عتيق وقديم ومثابر، رغم أنه لم يلتزم ذلك الالتزام الحديدي الذي يفرض نوعاً من الحرفية في الكتابة، لذلك لا يصلح أن نضع حنا مينه في خانات نقدية صارمة، لا يستطيع الباحث الجاد أو الناقد الحصيف، أن يقول إن كتابة حنا مينه تنتمي إلى تيار الواقعية، أو الواقعية السحرية، فإبداعه يخرج عن كافة تلك الأنماط، إنه إبداع وفقط. وكذلك له كتاب مشترك مع د. نجاح العطار عن أدب الحرب، كتباه في أعقاب انتصار أكتوبر عام 1973، واستطاعا أن يكشفا عن مفاهيم جديدة وأخرى لأدب الحرب، فليس كل ما كتب تحت رصاص الأعداء نعتبره أدب حرب، وليس كل ما كتب عن الحرب بشكل مباشر، نعتبره أدب حرب، كذلك ليس كل ما يكتب بعيداً عن الحرب بشكل مباشر، هو خارج أدب الحرب، أدب الحرب لا يتعلق بحدث، ولكنه يتعلق بنوع كتابة ما، ويخترق حدوداً ليست مرئية، ولكن القارئ والباحث يستطيع أن يلمس تلك الحرب في أي كتابة، حتى لو كانت عن الحب. حنا مينه حالة كتابية متوهجة، عاش طويلاً، وسوف نعيش معه نتلمس خبرته العظيمة في تجاوزه لكل المحبطات وأشكال اليأس التي تنهض في حياتنا. |
|