تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أميركا.. تناقض السياسة والقانون الدولي

دراسات
الأثنين 4/8/2008
بقلم: الدكتور إحسان هندي

في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي كانت السيدة جين كيركباتريك أستاذة القانون الدولي في جامعة كولومبيا الأميركية, تعمل سفيرة لبلادها في هيئة الأمم المتحدة, بالإضافة لعملها الأكاديمي في تلك الجامعة.

وفي صبيحة أحد الأيام أعطت لطلابها محاضرة عن (الاستيطان)(1), وقالت لهم إن جميع أنواع الاستيطان أصبحت أمراً ممنوعاً في القانون الدولي, بموجب الفقرة الثانية من المادة 49 في اتفاقية جنيف الرابعة لعام ,1949 والبرتوكول الأول الملحق بها عام .1977 وفي مساء اليوم نفسه حضرت السيدة المذكورة اجتماعاً لمجلس الأمن, وكان ينظر في مشروع قرار لشجب سياسة الاستيطان الإسرائيلي في المناطق العربية المحتلة, وعند نظر المشروع استخدمت السيدة المذكورة باسم حكومة الولايات المتحدة ( حق النقض VETO )ضد مشروع القرار المذكور فمنعت الموافقة عليه!‏

و كان من جملة طلاب السيدة كيركباتريك طالب ليبي في الدراسات العليا, وقد اجتمع بها فسألها في يوم من أيام الاسبوع ذاته:‏

(أرجو المعذرة منك أيتها الأستاذة كيرك باتريك ولكن ألا تعتقدين بأنك تمارسين قدراً كبيراً من التناقض حين تقررين صباحاً أن الاستيطان ممنوع بنصوص قانونية دولية, ثم تستخدمين في مساء ذات اليوم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار أتى تطبيقاً لهذه النصوص)?.‏

وكان أن أجابته المسز كيركباتريك ببرود:( وأين التناقض أيها الشاب? في الصباح كنت أتكلم ( أكاديمياً) كأستاذة للقانون الدولي, أما في المساء فتكلمت (سياسياً) كممثلة لحكومة الولايات: المتحدة الأميركية في مجلس الأمن)!.‏

إن هذه الحادثة التي رواها لي شخصياً هذا الزميل الليبي تدل على مقدار الرياء الذي أصبح متفشياً في السياسة الأميركية المعاصرة, و خاصة في زمن المحافظين الجدد, إذ إن هذه السياسة سددت طعنة في الظهر لقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية, بل إنها تنكرت حتى لمبادىء القانون الدولي (2), التي نادى بها رواد الأمة الأميركية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, وطبقها العالم من بعدهم.‏

ولكي لايبقى كلامنا في الإطار النظري يحق لنا أن نتساءل ماذا فعلت الولايات المتحدة الأميركية بالمبادىء الرئيسية للقانون الدولي, والتي تعارف جميع فقهاء وفلاسفة العالم على احترامها منذ معاهدة (وستفاليا) (3), لعام 1648 حتى اليوم? أين المبادىء التي تنص على :منع التدخل في شؤون الدول الأخرى, تساوي الدول في السيادة, حق الشعوب في تقرير مصيرها, حق الشعوب في مقاومة الاستعمار والثورة ضده, حق كل شعب في استثمار ثرواته الطبيعية, حقوق الإنسان الجماعية بل إن الأمر وصل إلى حد مخالفة ميثاق هيئة الأمم المتحدة, وذلك بالتشجيع على اتباع سياسة( الفوضى الخلاقة) والعمل على خلق »بؤرتوتر) وثورات وحروب أهلية ومحلية, بدلاً من الحفاظ على استقرار العالم وتوطيد التعاون بين دوله!.‏

ولئلا يقال: إننا نتحامل في كلامنا هذا على الولايات المتحدة الأميركية, أو إننا نلقي الكلام على عواهنه, سنستعرض فيما يلي أهم سبعة مبادىء من أساسيات القانون الدولي العام والشرعية الدولية, وكيف خرقتها الولايات المتحدة الأميركية عياناً بياناً على رؤوس الأشهاد, إلى درجة جعلت فقهاء القانون الدولي يترحمون على الزمن الذي كانت الدول تحترم فيه قواعده!.‏

أولاً مبدأ منع التدخل: إن مقتضى هذا المبدأ هو منع الدولة أي دولة من التدخل في شؤون الدول الأخرى, وهكذا جاء الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت رقم 2625(25) بتاريخ 20 تشرين الأول 1970 والصادر تحت عنوان:» مبادىء القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة) وبمناسبة مرور 25 عاماً على إنشاء هذه المنظمة, وقد نص هذا الإعلان بصريح العبارة على أن » الالتزام القاضي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أخرى هو شرط أساسي لضمان عيش الأمم المتحدة في سلام).‏

ولاندري إذا كان الرئيس الأميركي جورج دبليوبوش قد قرأ نص هذا الإعلان قبل أن يتدخل في الشؤون الخاصة بدولة أخرى ذات سيادة مثل الجمهورية اللبنانية, ويقرر الاعتراف بجانب وملاحقة جانب آخر ضمن النسيج الوطني الداخلي لهذا البلد!.‏

- ومن المفارقات الطريفة أن نشير إلى أن أول من نادى بحق منع التدخلNON-INTERVENTION و طبقه عملياً في المجال الدولي هو المسترمونرو, وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية عام ,1823 حين أطلق شعار أميركا للأميركيين AMERICA FOR AMERICANS وذلك لكي يمنع الأوروبيين من مناصرة دولتي إسبانيا والبرتغال, اللتين كانتا تستعمران معظم أقطار أميركا اللاتينية في تلك الأيام!.‏

وإننا نستغرب تماماً كيف أباحت حكومة الولايات المتحدة الأميركية لنفسها إطلاق شعار أميركا للأميركيين, ثم تأبى اليوم على الدول الأخرى أن تنادي بشعارات مماثلة من نوع » إفريقيا للإفريقيين أو»آسيا للآسيويين) أو »بلاد العرب للعرب) ?!.‏

بل إن الأمر وصل مع الإدارة الأميركية الحالية إلى أقصى درجة من الفظاظة, باحتلالها بلدين آسيويين يبعدان عنها آلاف الكيلو مترات باسم تخليص البلد من جماعة مستبدة (جماعة الطالبان بالنسبة إلى أفغانستان) أو من ديكتاتور (صدام حسين بالنسبة إلى العراق), وكأن هيئة الأمم المتحدة اعتمدت أميركا حاكماً وقاضياً وشرطياً لجميع أنحاء العالم! .‏

- وإذا كان هذا العالم قد قبل على مضض قيام حكومة الولايات المتحدة بتدخلات شرسة في كل من بنما ونيكاراغوا وغرينادا وهايتي والدومينيكان وفنزويلا, فلأن جميع هذه الدول واقعة ضمن » أميركا اللاتينية) ويمكن تقبل طرح حجة » الحفاظ على الأمن القومي الأميركي) في هذا المجال, ولكن هذه الحجة يصعب قبولها عندما يكون البلد الذي يتدخل في شأنه يبعد آلاف الكيلو مترات عن الولايات المتحدة الأميركية!.‏

وبمناسبة الحديث عن »الأمن القومي الأميركي) فهو مفهوم مطاط, يمكنه أن يتسع- مثل جراب الكردي (4)- لكي يشمل أي شيء وكل شيء, حيث سمعنا أخيراً أن زيادة عدد السكان في دول العالم الثالث, ضمن قارتي آسيا وإفريقيا, هي أمر يهدد مع الزمن الأمن القومي الأميركي!.‏

ومثل هذا التحليل سيجعل العالم بكامله مهدداً بالتدخل من قبل أميركا, وفي هذا تحقيق غير مشروع لجملة المصالح الأميركية من عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية, لكي يدخل العالم بكامله في منظومة ( السلم الأميركيPAX AMERICANA(5),وهذا أمر لاينكره الأميركيون أنفسهم اليوم!.‏

ويقول أحد المحللين السياسيين العرب في هذا المجال: »أما في حالة الإدارة الأميركية الحالية فقد أصبح هدف التدخل الأساسي هو إعلاء الصوت الأميركي واعتبار الولايات المتحدة الأميركية بمثابة مرجع أساسي لحل أية قضية دولية بصرف النظر عن موقف الأمم المتحدة منها (6).‏

ثانياً -مبدأ تساوي الدول في السيادة: وهذا يعني أن كل دولة كبيرة كانت أم صغيرة, غنية كانت أم فقيرة, هي سيدة نفسها تحت سلطان القانون الدولي والشرعية الدولية, وهي مساوية في هذا للدول الأخرى.‏

ومعنى هذا أن جميع الدول لها الحقوق نفسها وعليها الواجبات نفسها, ومن ضمن حقوقها القيام بالتصرفات المعترف بها للدول المستقلة, وعلى هذا لايحق لأميركا أن تصنف الدول إلى »دول مسالمة) و»دول من محور الشر) أو» دول ديمقراطية) و»دول إرهابية), وليس من الديمقراطية في شيء أن يقول الرئيس بوش» مَن ليس معنا هوضدنا) أو أن تقول مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة :» العالم لنا, العالم للأميركان) لأن القول الأول فيه مصادرة لحق كل دولة أن تكون لها سياستها الخاصة بها سواء اتفقت هذه السياسة مع السياسة الأميركية أم لا, والقول الثاني فيه مقدار كبير من نزعة » التفوق العِرقي) والشوفينية (7)!.‏

- ثم إذا استندنا إلى مبدأ تساوي الدول في السيادة,فإننا لانفهم كيف أغمضت أميركا عينيها سنوات وسنوات وسمحت لإسرائيل بالحصول على » السلاح النووي) بينما رأيناها تقيم الدنياولاتقعدها عندما حاولت إيران الحصول على مفاعل نووي لتوليد الطاقة?.‏

إننا من جهتنا من أنصار سياسة التمسك بمعاهدة »منع انتشار الأسلحة النووية) (8 ) لذا فإننا لانفهم كيف تسكت الولايات المتحدة الأميركية عن نشاط دولة يعرف العالم جميعه أنها تملك ما يزيد عن مئتي رأس نووي, ورفضت الانضمام إلى معاهدة منع الانتشار »إسرائيل) بينما نجدها تقف في وجه دولة عضو في هذه المعاهدة »لمجرد أنها حصلت على مفاعل لتوليد الطاقة لغايات سلمية »إيران) ?‏

ثالثاِ: مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها تمتعت الشعوب منذ أواسط القرن الثامن عشر باعتراف القانون الدولي لها بحقها في تقرير مصيرها ,, وجد هذا المبدأ تطبيقه الفعلي في استقلال الولايات المتحدة الأميركية عن بريطانيا سنة ,1776 ثم في استقلال أغلب دول أميركا اللاتينية عن دولتي اسبانيا والبرتغال اللتين استعمرتا هذه الدول منذ أوائل القرن السادس عشر.‏

والطريف في الأمر أن الرئيس الأميركي وودور ويلسون ذكر مبدأ حق تقرير المصير ضمن المبادئ الأربعة عشر التي نادى بها عام 1917 كمبادئ أساسية لتنظيم عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى.‏

وبالرغم من أن دولة الولايات المتحدة الأميركية بحد ذاتها قامت كدولة مستقلة استناداً لهذا المبدأ , وبالرغم من أنها أيدته بشراسة طيلة القرن التاسع عشر لدعم طلبات استقلال شعوب أميركا اللاتينية, فإنها تنكرت لقواعده بشكل شبه تام بعد الحرب العالمية الثانية وقلنا هنا بشكل شبه تام إنها في مرات قليلة ساعدت بعض الشعوب في استقلالها ليس نصرة للمبدأ , وإنما لأن ذلك كان يتلاقى مع مصالحها.‏

وهكذا رأيناها تؤيد استقلال الفيليبين سنة 1946 كما أيدت انفصال اقليم تيمور الشرقية عن دولته الأم واستقلاله عن اندونيسيا قبل عقد من الزمن, ووقفت أخيراً إلى جانب استقلال اقليم »كوسوفا) عن صربيا .‏

ولكن حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أول دولة اعترفت بإسرائيل في شهر أيار 1948 لا تزال تناور وتداور وأحياناً تعارض حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره والحصول على دولته المستقلة بعد ستين عاماً من احتلال أراضيه وغصبها منه قهراً.‏

وبالرغم من أن الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قد اتخذت قراراً مشرفاً بإنهاء الاستعمار في عام 1960 فإن الشعب العربي الفلسطيني هو أحد الشعوب القليلة التي ما زالت تعيش تحت الاحتلال الحربي منذ أكثر من أربعين عاماً حتى اليوم.‏

ونحن على قناعة أكيدة من أنه لولا السياسة الأنكلوأميركية لما قامت إسرائيل, ولولا السياسة الأميركية الحالية لكان بوسع الشعب العربي الفلسطيني أن يحقق مصيره بالتحرر والاستقلال »للبحث تتمة).‏

الهوامش‏

1-من الأفضل استخدام كلمة »استعمار) بدلاً من »استيطان) في اللغة العربية‏

2- المبادئ هي أمهات القواعد في القانون الدولي‏

3- معاهدة وستفاليا لعام 1649 تعتبر »صك ميلاد القانون الدولي)‏

4- جراب الكردي بالتعبير الشعبي هو كيس يمكن أن يحوي على شيء ويقابله في اللغة الفرنسية تعبير» علبة باندورا BOITEDE PANDORA‏

5-باكس آميريكانا »أي السلام الأميركي) قياساً على باكس رومانا »السلام الروماني).‏

6- عن مقال للدكتور ابراهيم عاصم منشور في مجلة »الحرس الوطني) السعودية العدد الصادر في تشرين الثاني .2005‏

7- الشوفينية CHAUVINISINE تعني التعصب القومي الأعمى.‏

8- يرمز لهذه المعاهدة اختصاراِ بأحرف »NPT)‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية