تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الشيخ الشاعر

آراء
الأثنين 4/8/2008
جلال خير بك

الشاعر الشيخ محمد حمدان الخيّر,واحد من الأسماء الأدبية التي أنجبها الساحل السوري وتحديداً محافظة اللاذقية,فهو رحمه الله لم يقصر وعيه المعرفيّ على أمور الدين وحدها بل كانت ثقافته عامة, جمعت إلى جانب معرفته بالدين الإسلامي وكتابه الكريم وبالسنة النبوية الشريفة,موهبة واطلاعاً أدبياً وفلسفياً جيداً,فضلاً عن متابعته وجوه العلم الأخرى.

ضرب صفحا عن أمور (المشيخة) وتفرّغ لثقافته وإبداعه ...فهو إلى جانب تلك الصفات شاعر جيد اتسم شعره بالمتانة والرصانة.‏‏‏

وكان رحمه الله بعيدا قليلا عن الناس وأمورهم العادية إلا العلماء الأجلاء منهم,بيد أن ذلك لم يؤثر على شخصيته إذ كان محترما من كافة الناس ويقوم بجميع الواجبات التي تستدعيها الجيرة والأهلية والقربى... وظل الكتاب والمعرفة رفيقيه مدى حياته الحافلة بالصمت والخلق وبالمعرفة بكل تجلياتها,فأنشأ أسرة كريمة كان العلم عمادها الأول.‏‏‏

فابنته المرحومة الدكتورة سلوى ا لخير كانت أستاذة جامعية في قسم اللغة العربية وابنه الدكتور إياس الخير طبيب القلبية والقثطرة المعروف في مشفى الأسد الجامعي وفي مشافي دمشق والمدن السورية ولم أعد أذكر أسماء أولاده الباقين إلا أنني أتسقط أخبارهم من الأقرباء والأصدقاء وأهالي بلدة القرداحة التي نشؤوا فيها ونهلوا العلم من لدن والدهم ومن مدارسها الابتدائية فالإعدادية فالثانوية وهم في هذا كله نتاج تلك النبعة العلمية وعلى سوية تعليمية جيدة.‏‏‏

كان المرحوم محمد حمدان الخير أحد سكان تلك البلدة (القرداحة) فيها نشأ وعاش ولازمها حتى رحيله فتخلّق بأخلاق جبالها الشمّاء وشمسها التي لفحته فمنحته سمرة ظاهرة وشخصية متينة صامتة,حتى إنني لا أتذكره في المناسبات (التعزية مثلاً) أخذ الحديث واسترسل به كما يفعل رجال الدين في كل مكان, بل كان يؤدي واجبه بصمت الكبار وهو ابن المعرفة والحديث ومقدرة القول والإقناع.‏‏‏

ولم يكن عزوفه عن الدنيا وعن معظم الناس:لعلة خَلقية أو خُلقية فيه بل كان نتاج تفرّغه للكتاب والمعرفة ولعدم الرغبة في إضاعة الوقت بين مماحكات الناس وخلافاتهم الصغيرة وأمورهم الدنيوية العادية سواء أكان ذلك في بلدته أم غيرها من المدن والبلدات الأخرى.‏‏‏

ففي سفر المعرفة كان يجد نفسه وحياته وكان المقربون منه أو أصدقاؤه هم رجال المعرفة والمسائل العلمية وكان عالمه المحيط هو المكتبات وحنايا الكتب والأسفار التي أغنت معرفته واطلاعه الدؤوبين.‏‏‏

تحدر هذا الشاعر الشيخ من أسرة علم ودين يحترمها المجتمع لتآخيها مع أفراده وامتزاجها بهم ولا سيما في اللحظات القاسية التي تحتاج إلى أخ وصديق ورجل دين يستطيع أن يؤدي واجبه ذاك متمثلاً بالإسلام في معانيه الكبرى وجوهره المضيء.‏‏‏

بيد أن شباب هذه الأسرة انصرفوا منذ عقد الستينيات إلى العلم كالطب والصيدلة واللغات وباقي الفروع وتركوا شؤون المشيخة والدين للكبار الذين كانوا رواداً وظلوا كذلك حتى رحيلهم.‏‏‏

ولئن كان شاعرنا هذا واحدا من النابغين في هذه الأسرة, فإنه لم يأل جهدا في اختزان ما قدمه له أقرباؤه المشايخ الكبار من علوم الدين وضروب المعرفة وظلت الكتب وثقافاتها أهم صديق ورفيق درب له.‏‏‏

صدر ديوان هذا الشاعر العام الماضي وأهداني ابنه الدكتور إياس نسخة منه فقرأت بين دفتيه قصائد جميلة متينة متماسكة, فيها من العمق بقدر ما فيها من الشمولية :تغني ركائزها وومضاتها ولحظات إلهامها.‏‏‏

ولئن كانت الصفة العامة للقصائد هي النمط العمودي فلأن هذا الشاعر كان وفياً لتراثنا العربي فضلاً عن أنه بدأ كتابة شعره وتدوينه قبل اليوم وبفترة طويلة وقبل أن تغرقنا أسواق الغرب بصراعاتها نتيجة حركة الترجمة إثر الاغتراب والسفر إلى تلك البلدان بقصد العلم والاطلاع.‏‏‏

وعموماً يمتاز شعر المرحوم محمد حمدان الخيّر بالرصانة وتعدد الموضوعات فمن الوجدانيات إلى الحكمة ومن المعاناة إلى المواقف الصادقة المتجردة ومن هذه المواقف إلى الأفعال التي يجيء مثلها الأعلى ناظما أخلاقيا معرفيا يصدر عن قناعات داخلية وَسَمتْ شعره ومواقفه وحياته كلها.‏‏‏

وليس غلوَّاً القول ونحن نتحدث عن هذا الشاعر ابن تلك البيئة: إن الحركة الثقافية والإبداعية في سورية قد وضعت المنطقة الساحلية في مكانة مرموقة بين مناطق القطر العربي السوري فمن خيالات الشعر وإبداعه برزت أسماء لا يمكن للثقافة العربية نسيانها وعلى رأسها الشاعر الكبير بدوي الجبل فنديم محمد وأدونيس وكمال خير بك ومحمد عمران وغيرهم الكثير من الأسماء اللامعة التي عرفها المحيط العربي والأجنبي.‏‏‏

وفي حركة الرواية والقصة أنجبت تلك المنطقة مبدعين كثراً مثل حنا مينة وعبد الله العبد وحيدر حيدر وهاني الراهب ونبيل سليمان وسواهم من الأسماء الكبيرة.‏‏‏

أما في الحركة المسرحية فقد كان الراحل سعد الله ونوس علما بين المسرحيين العرب استطاع أن ينقل اسم سورية إلى الفضاءات المسرحية العربية والعالمية.‏‏‏

ولعل الميزة الأهم لأدباء تلك المنطقة أنهم شكلوا رافداً مهما للحركة الأدبية السورية فتضافرت إبداعاتهم مع إبداعات المناطق الأخرى لتبقى سورية -كما كانت دائما-خزاناً للإبداع لا ينضب ولا يخف بريقه.‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية