|
آراء وتحقيقاً لهذا الهدف في عصرنا كتبت مئات البحوث, حول نقل التكنولوجيا وتوطين التكنولوجيا..الخ. ظناً من كاتبها أن أبحاثهم تلك ستفض مغاليق التقدم, وستكشف أسرار التمدن, الأمر الذي سيفضي في نهاية المطاف إلى جعل الأمم, التي أجريت هذه الأبحاث لصالحها, قادرة على منازلة الأمم التي اقترضت منها التكنولوجيا, من غير أن تكون قادرة في الحقيقة على تحقيق تلك الآمال والأحلام التي عقدت عليها بالضرورة. وقد كانت الشعوب العربية من أوائل من وقع في هذا الوهم الذي لم تلبث التجربة نفسها التي امتدت عشرات السنين أن أثبتت أنه لايزيد عن كونه وهماً أو حلماً من أحلام اليقظة لايلبث أن يتبدد عند أول عقبة يصادفها صاحب هذا الحلم في طريقه, فيرتد من الحلم إلى اليقظة ومن الخيال إلى الواقع, الذي يرمي بثقله على صدور أبناء الأمة إذ يكشف لهم عن فقرهم وجهلهم وتخلفهم, على الرغم من أن أيديهم وأيديهم فقط - قد أصبحت قادرة على إدارة بعض الآلات بمجرد الضغط على بعض مفاتيحها وأزرارها. ولعل القوة العسكرية- وهي إحدى صور التقدم التقني - والتي مكنت الغرب من بسط سلطانه على العالم, قد كانت واحداً من المحركات الخفية التي حفزت الوعي العربي على التفكير الجدي في امتلاك التقنية, وخصوصاً أن العرب قد ظنوا لوقت طويل أن تفوق إسرائيل عليهم إنما يرجع بصورة أساسية إلى تفوقها التكنولوجي. غير أن النظر في تجربة العرب في امتلاك التكنولوجيا, من حيث هي مظهر من مظاهر التقدم والقوة, في النصف الثاني من القرن العشرين, يكشف أن النظم العربية جميعها - قد أضفت على التكنولوجيا صورة سحرية تذكر بتصور العرب للمعجزات ولمردة الجان والشياطين الذين يأتونك بما تريد من قبل أن يرتد إليك طرفك. وهكذا حظيت التكنولوجيا بأهمية مستقلة عن الإنسان, فبدا لصناع القرار أن نقلها أو توطينها أو اقتراضها أو حتى تقليدها من شأنه أن يفضي إلى حل المشكلات وتخطي الصعوبات التي تترجم عن نفسها في صورة تخلف وفوات تاريخي وحضاري مؤكدين. وهكذا حظيت التكنولوجيا بكل اهتمام, بينما حرم الإنسان منه تماماً, فإذا بالتكنولوجيا قد أصبحت أشبه بعفريت مستقل يتحرك ويدور ويفعل آلياً, وبمعزل عن النشاط الغرضي الذي يستهدف الإنسان به ذاته أولاً وقبل كل شيء. وهكذا أهملت حرية وكرامة وحقوق الإنسان لمصلحة تصور فقير عن التقدم يمكن تلخيصه فيما أطلق عليه اسم الثورة الزراعية أو الثورة الصناعية. بينما مضى هذا التصور الفقير عن التقدم وعن التكنولوجيا المرتبطة به إلى إهمال كل حديث عن الثقافة من حيث هي فعل يفترض أن ينتهي إلى تحقيق ثورة ثقافية تنفض الغبار عن العقول, وتنظف الأدمغة من الأساطير والخرافات التي انتجتها قرون وقرون من التخلف. وبدلاً من تركيز الاهتمام على الثورة الثقافية.تم التركيز على التكنولوجيا من حيث هي قادرة على اجتراح المعجزات, فلم يفعل العرب, نتيجة لذلك طوال المئة السنة الأخيرة إلا أن استبدلوا معجزة بمعجزة وخرافة بخرافة, فظل العقل يستخدم المقولات نفسها. وكل مافعله هو أنه قد غير أسماءها. وقد ابتكر اسماً جامعاً وربما مانعاً, لكل العفاريت والمردة وأصحاب المعجزات هو التكنولوجيا. فلم تعد هذه المعجزة الجديدة والعفاريت الجديدة على الإنسان العربي بما هو أفضل مما استطاع تحصيله من تصوره عن كل المعجزات السابقة التي تسببت في تخلفه وفي تقهقره إلا معجزة جديدة لم تستطع أن تحقق له التقدم بالمعنى الصحيح للكلمة. وسبب ذلك بسيط جداً هو أنه انتقل من معجزة إلى معجزة, أو إن شئت فقل: هو قد رجع من معجزة إلى معجزة وهذا مايشهد على أن المضمون قد ظل واحداً في حين أن التغيير والتنوع لم يصب إلا الأشكال والصور التي يستخدمها العقل في التفكير والتعبير وبينما ظل مفهوم التقدم واحداً لم يتغير ولم يتطور لقد ظل العقل الذي لايعقل يتخذ من المعجزة مضموناً وشكلاً له. |
|