|
كتب فإن معاشرة اللصوص في السجن أكثر متعة من معاشرة أي بشر آخرين, أياً كان مستوى تعليمهم فيه يشبه جزيرة قفراء يعيش فيها الناجون من سفينة غارقة, حياة عديمة المعنى, على أمل قدوم سفينة إنقاذ وقد سئم بعضهم بعضاً أيما سأم). سيتبادر إلى ذهن القارىء لدى قراءته لأحد أعمال نودار دومبادزه بأنه يقرأ السلاسة بعينها دون أن تنقصها الأفكار العميقة بل سيعثر على ومضات فلسفة بين صفحة وأخرى. أمضى الأديب الجورجي نودار دومبادزه (1998 - 1984) سنوات طفولته وشبابه في زمن تاريخي ثقيل الوطأة, شديد القسوة على الصعيدين المجتمعي والشخصي. فقد ولد لأبوين مثقفين جورجيين, وكان أبوه واحداً من القادة الشيوعيين المعروفين محلياً في تبليسي, عاصمة جمهورية جورجيا الجبلية القوقازية, غير أن الصراعات العنيفة نشبت منذ بداية الثورة عملياً بين القيادات الشيوعية وبدأت مرحلة التصفيات الستالينية أواخر ثلاثينيات القرن العشرين, وفي حمى تلك المرحلة, حين كان عمر نودار دومبادزه ثمانية أعوام, اعتقل والده سنة 1937 وقتل موصوماً, كمئات آلاف غيره, ب (عدو الشعب) ثم سرعان ما اعتقلت أمه أيضاً ولم يرها إلا وقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره, بعد وفاة ستالين عام 1953 وخلال هذه الفترة من اليتم والحرمان العاطفي والمادي تولى تربيته وتنشئته أقرباء له في قرية تقع غربي جورجيا, ثم انتسب إلى جامعة تبليسي (كلية الاقتصاد) وتخرج منها عام 1950 وبعد أن أصدر دومبادزة, خلال عامي 1956 - 1957 ثلاث مجموعات من القصص الفكاهية الساخرة, انصرف إلى الأدب, ونشر مجموعة قصصية أخرى, هي (الصبي الريفي) غير أن شهرته الحقيقية تعود إلى روايته الأولى (أنا وجدتي وايليكو وايلاريون) التي أعقبتها روايات أخرى, هي (أرني الشمس) و(ليلة مشمسة) و (الرايات البيضاء) . يتصدى دومبادزه في روايته (الرايات البيضاء) لموضوع يلامس صلب النظام الاجتماعي السياسي في بلاده عام 1967 ويوجه أنظار القارىء إلى بعض المشكلات الأساسية التي يعاني منها المجتمع الجورجي, والنظام السياسي الشمولي عموماً فيضع تلك المشكلات متمثلة في عشرة موقوفين قيد التحقيق. تحت المجهر في حّيز ضيق, كاشف, لا داعي فيه للكذب هو غرفة السجن. واللافت للنظر أن هؤلاء الموقوفين العشرة ليس لهم صلة مباشرة بالسياسة, بينهم اللص, والمجرم, والمرتشي, ومختلس أموال الحكومة, والقاتل عن غير قصد, والمتهم بالقتل زوراً, إنهم بمعنى ما, الوجه الآخر للسياسة, شوارعها الخلفية, قاعها الاجتماعي, وجهها الباطني, المضمر.. ولعلنا بهذا المعنى تحديداً نستطيع الحديث عن المنطوق السياسي في رواية (الرايات البيضاء) مع بقائها, وربما في المقام الأول, رواية أدبية ذات بعد إنساني عميق, تستعرض مصائر بشرية ولا تقوم على سرد سياسي مباشر بل تنضح بالسياسة, أو تنبع السياسة من سياقها كواحدة من مستويات دالاتها أو من طبقات تلك الدلالة- كما يؤكد مترجم الرواية د. نوفل نيوف-. ثمة ثمانية شهود يؤكدون زوراً اتهام بطل الرواية, الشاب الفتي ظاظا نكشيدزه, بجريمة قتل هو منها براء تهمة دامغة وبراءة كاملة, ذلك هو مصدر التوتر الذي يرافق القارىء حتى نهاية هذه الرواية التي نستكشف عبر صفحاتها رهافة الكاتب في استبطان أعماق الفرد, وسعيه الدائم لاستجلاء الإنساني في كل من هؤلاء الموقوفين التعساء. إنه يتعاطف معهم بقدر ما فيهم من إنسانية ونقاط ضعف بشري, دون أن يعني ذلك تسويغ أفعالهم, بالطبع, أي دون الانحباس في اللونين الأبيض والأسود العاجزين وحدهما عن الإحاطة بالعلاقة المركبة, المعقدة بين الفرد والمجتمع, بين الفرد وذاته, بينه وبين (أناه) الإنسانية. فالمجتمع الاشتراكي (جورجيا أواسط ستينيات القرن العشرين, نموذجاً) هو فضاء الحدث الروائي الذي يطفو على سطحه الوجه السياسي, موضوع التحليل والنقد والإدانة, أي ما مداه سؤال كبير: إلى أين هذا المجتمع? وما مصير الإنسان الذي يعيش فيه محكوماً بشروطه وقوانينه? كثيراً ما يلجأ دومبادزه إلى استخدام عناصر من سيرته الذاتية في أعماله الأدبية, شأنه هنا في (الرايات البيضاء) ولكنه يفعل ذلك باقتصاد وحساسية فنية رفيعة فيبتعد في آن معاً عن نسخ الوقائع المعيشة, وعن التشفي الثأري من الماضي, ابتعاده عن استدرار الدموع والاستغراق في الإنشاء حتى في أشد المواقف إغراء بذلك, ويجعل دومبادزه من السخرية الشفافة والحلم والرؤيا والتأمل جزءاً عضوياً من جمالية فنه, أو من (أدبية) ما أبدعه قلمه. والجدير بالذكر أن ثلاثاً من روايات الكاتب الجورجي نودار دومبادزه سبق أن ترجمت إلى اللغة العربية, ونشرتها دار (التقدم) موسكو وهي: أنا وجدتي إيليكو وإيلاريون وأرني الشمس وناموس الأبدية حيث يكون بمقدور القارىء العربي أن يطلع على أهم أربع روايات كتبها أديب سوفييتي, غير روسي والذي يمكن أن يوضع في صف واحد مع الأديب القرغيزي جنكيز إيتماوف من حيث شهرة الاثنين بكتابة أدب رفيع فنياً أو ناقد لا يمالىء ولا يداهن النظام السياسي. الكتاب: الرايات البيضاء/ رواية. تأليف نودار دومبادزه/ ترجمة د. نوفل نيوف- د. عادل اسماعيل / صادر عن وزارة الثقافة |
|