تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حروب ا لثقافة والعقائد

آراء
الأربعاء 6/2/2008
د.منذر شباني

على قدم وساق, يجري العمل على توحيد العالم ثقافياً, وهو ما يعرف بالعولمة الثقافية, وبهذا السياق يعمل جيش من الإعلاميين والخبراء النفسيين و المثقفين المعولمين للترويج لثقافة العولمة والبحث عن الأدوات والوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق هذا المشروع.

وقد استطاعت العولمة, لا أن تدخل كل بيت فحسب, من خلال الأقمار الصناعية التي تبث على مدار الساعة برامج متلفزة متنوعة, بل وأن ترافق كل شخص أينما يذهب وحيث يحل, حتى أن راعياً يهش بعصاه على غنمه في قلب الصحراء أو على سفح جبل يستطيع أن يتلقى اتصالاً على هاتفه الجوال تماماً كما يستطيع ذلك مدير صندوق النقد الدولي القابع خلف مكتبه الفخم وهذا يعني أن العولمة قد وحدتهما تكنولوجياً ولكن هل وحدتهما ثقافياً?‏

إذا كانت العولمة تهدف إلى تغيير نمط الحياة الخاص بكل مجتمع وصهر ا لبشرية جمعاء في نمط ثقافي واحد, فإنها ربما استطاعت حتى الآن أن تفعل ذلك, فنمط الحياة لهذا ا لراعي قد يتغير فعلاً, فمن خلال تقنية الهاتف النقال يتمكن هذا الراعي من البقاء على اتصال مع الآخرين طوال الوقت, هذا فضلاً عن أنها تسمح له, وهو خلف قطيعه من متابعة الأحداث وما يجري في العالم بالصوت والصورة.‏

وربما يشعر أيضاً بديمقراطية التكنولوجيا عندما يجد نفسه قادراً على استخدامها تماماً كما يستخدمها كبار رجال السياسة والمال في العالم.. وبالنظر إلى الثقافة كبناء مصطنع, فإن الثقافة المعولمة تحاول إعادة تصنيع البشر بما يتوافق مع الأهداف والغايات التي تطمح إليها, والتي تتلخص بالقضاء على الخصوصيات الثقافية وإحلال ثقافة العولمة محل التنوع الثقافي للأفراد والمجتمعات والدول. وتأتي قدرة العولمة على فعل ذلك من الثقافة نفسها, من طبيعتها.‏

فالثقافة تتعلق بالأفكار التي تكتسبها من الوسط المحيط,من البيئة الاجتماعية وهي أفكار قد ننتجها بأنفسنا أو قد نأخذها عن غيرنا ونتبناها ونرددها,وتاليا فإنها تظل عرضة للتغيير,فالثقافة إذن لا تتمتع بالثبات,وهي قد تتغير إلى درجة الذوبان والتلاشي بمجرد تغير الوسط الاجتماعي أو الأدوات التي نتعامل معها,ما يعني أن نظرتنا واتصالنا مع العالم الخارجي ومع ذواتنا سوف تتغير,فالهاتف النقال بالنسبة للراعي في مثالنا,قد غير علاقته مع الوسط المحيط كما غير نظرته إلى نفسه,فبدلاً من الزيارات الميدانية للأراضي الصالحة للرعي,صار بإمكانه التواصل مع زملاء مهنته وأن يسألهم عبر ذلك الهاتف وأن يأخذ قطيعه نحو تلك الأرض أولا.ولا ضير إذن إن شعر هذا الراعي بالامتنان تجاه العولمة وإن غدت منتجاتها جزءاً ضرورياً ومهماً في حياته,كما أن العولمة ستأخذ بصياغة ثقافة جديدة له.تقوم بالدرجة الأولى على الأدوات التي استطاعت من خلالها أن تمتلكه أولاً وأن تغير أفكاره حول علاقته بالأشياء والأشخاص والعالم ثانياً.‏

إلا أن مشكلة ستنشأ عندما يكتشف هذا الراعي أن هاتفه النقال يستقبل صوراً(جنسية)دون أن يستطيع فعل شيء حيال ذلك,والسؤال هو كيف سيتصرف هذا الشخص وهل سيظل يتعامل مع هاتفه الناقل بالطريقة نفسها و الأفكار الجديدة التي اكتسبها أم أن عقيدته هنا هي التي ستقفز في وجهه,عقيدته التي قد تعتبر مثل هذه الصور نوعاً من الحرام والكفر? وتشدد على رفض الحريات الجنسية(الاباحية) التي تحاول العولمة اليوم أن تروج لها وأن تفرضها على الجميع من خلال الإعلام المعولم وكل وسائل الاتصال الحديثة.‏

لا شك أن صراعا سينشأ لدى هذا الشخص بين الأفكار أو الثقافة التي يجد نفسه مجبراً على تلقيها وبين عقيدته التي ترفض هذه الثقافة.وهو صراع بين متغير وثابت فإذا كانت الثقافة متغيرة ومتحولة فإن العقائد على العكس تماما إنها ثابتة لا تتحول إنها اقرب إلى الفطرة التي يفطر عليها المرء فالعقيدة لا يكتسبها المرء من الآخرين بل يرثها كما يرث لون بشرته ولون عينيه إنها هويته التي بدونها لا يعود يتعرف على نفسه واذا تناولنا هذا الراعي من وجهة نظر الثقافة فإنه قد يبدأ بالانخراط في هذه الثقافة الجنسية التي تقتحم حياته دون إذن إلا أن انخراطه هذا سيظل انخراطا ظاهريا أما انتماؤه الحقيقي فسيبقى لعقيدته وسيأخذ بالالتصاق أكثر فأكثر بقبيلته وعقيدته ذلك أن شعورا سيتولد لديه وهو أن شيئا لن يحميه من هذه الثقافة الوافدة والغريبة سوى (العقيدة).‏

ما يشير إلى أن العولمة قد تنجح في توحيد الناس ثقافيا إلا أنها ستفشل في تغيير عقائدهم والصراع الذي تواجهه العولمة اليوم بالإضافة إلى الصراع بين الفقراء الذين يزدادون فقرا والأثرياء الذين يزدادون ثراء هو صراع بين عقائد مفرقة وثقافة موحدة إلا اذا استطاعت العولمة أن تتحول إلى عقيدة وهو أمر صعب فعلى سبيل المثال يمكن في هذا المقام ذكر المعسكر الشيوعي كنموذج على مقاومة العقائد للثقافة فعلى الرغم من المحاولة التي دامت قرابة السبعين عاما لتحويل الشيوعية في بلدان ذلك المعسكر إلى عقيدة إلا أن ذلك لم يتحقق وقد ظلت الشيوعية طوال تلك السنين مجرد ثقافة توحدت تحت رايتها تلك البلدان بحيث أنه ما ان انهار الاتحاد السوفييتي حتى عادت العقائد الأساسية ليس للظهور فحسب بل وللاقتتال ايضا وقد شهد العالم المعاصر حربا لم تشهدها العصور الوسطى حرب قامت على التطهير العرقي بين البوسنة والهرسك لم يجد معها كل ذلك التراث الطويل الذي حاول أن يوحدهما (ثقافيا).‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية