|
فضائيات كأن اللغة تخوض سباق حواجز لتخرج من أفواه المتحاورين, أو كأنها تعاني مخاضاً عسيراً لتولد من جديد حروفاً صوتية, ثم كلمات منطوقة, وبعدها جمل وعبارات مزخرفة بالكثير من الحشو واللغو. في الحقيقة, يمكنني أن أقدم ما يشبه التفسير: أعتقد أن الأمر يتعلق أولاً بفهم البرنامج الحواري, إذ يستسهله المعد أولاً والمذيع ثانياً والضيف ثالثاً وهذا يستدعي تجاهل المشاهد له أخيراً وهكذا نجد أن أطراف مثل هذه البرامج تفتقد إلى الفهم العميق لموضوع الحوار. وهنا يحدث الهرب والقفز من سؤال إلى آخر بلا رابط, وتبدأ الاستدراكات والعبارات الإنشائية, دون أن يستطيع أحد المتحاورين الخوض مباشرة في المشكلة وخلق جو دينامي تفاعلي. يتعلق الأمر ثانياً باختيار أطراف الحوار من مذيع أو مذيعة وضيوف, ففي مثل هذه البرامج, خصوصاً ذات البث المباشر, لا يكفي أن تتلقى المذيعة توجيهات واسئلة المعد, بل يجب أن تمتلك فهماً يوازي فهم المعد للموضوع, وأن تتفوق عليه في قدرتها على التعبير مباشرة عنه وأكثر من ذلك في الكشف عن تناقضاته والقدرة على إثارة الضيف واجباره على الدخول في صلب الموضوع وحتى إرغامه على تجاوز العبارات الإنشائية عن طريق تجزئة الاسئلة واختزالها وطرحها بطريقة صادمة. ومن جهة أخرى يستدعي ذلك العناية باختيار الضيف واكتشاف مدى قدرته على خوض الحوار قبل البدء به, وهذا لا يعني إطلاقاً إلغاء العفوية أو التلقائية, بل يعني تشذيب هذه العفوية والتلقائية عن طريق إزالة هيبة الكاميرا مثلاً أو إجراء بروفة لاستذكار وتنظيم الافكار والمعلومات..الخ. عموماً, جرت مؤخراً محاولة لتحريك مثل هذه البرامج عن طريق محاكاة بعض الفضائيات كالجزيرة والعربية, وبدأت شاشاتنا تستضيف جمهوراً في الاستديو, كما في برنامج الخط الأحمر وبلا رتوش, لكن الضيوف الجدد كشفوا أو تكشفوا عن المشكلة ذاتها, ولم يستطيعوا أن يخرجوا في تفاعلهم عن سياق الرتابة العامة للبرنامج ولم يستطيعوا أيضاً إغناء هذه البرامج بالآراء الجريئة, وعادت اللغة إلى قفز الحواجز لديهم. لا أريد هنا أن أفلسف الأمور وأحيلها إلى الرهبة وثقافة الخوف في المجتمع, ولا أريد أن أنكر على المواطن قدرته على التعبير عن نفسه, لكنني أريد أن أشير إلى أن الاعلام هو فن الاختيار وفن الاقتطاع, ويجب أن يكون الجمهور المستضاف صاحب مصلحة حقيقية أو طرفاً في المشكلة المطروحة ويجب اختياره بناء على رؤية محددة, وليس خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم. أيضاً, لا أريد هنا أن أقارن ببرامج أجنبية أو برامج عربية, لكنني أود التنويه إلى النقطة الجوهرية والحاسمة في نجاح مثل هذه البرامج, وهي حضور الآراء المتناقضة والمتصارعة والمتعارضة, وبدون هذا الحضور, وحرية التصادم فيما بينها, لا يمكن أن نقدم برنامجاً وحواراً جذاباً, بل نعيد إنتاج اللون الواحد والرؤية الأحادية, ويتحول كل شيء على شاشتنا, بما في ذلك البشر وأفكارهم, إلى مجرد ديكور مكرر وممل. أخيراً, حتى لو كانت المشكلة فعلاً بنيوية ومتغلغلة في صميم تكويننا, فهذا لا يعني الاستسلام لها, لأن الحوار وحرية التفكير والتعبير هي جوهر الوجود الإنساني, وإذا كانت هذه الخصائص قد أهملت لحين من الزمن, فهذا لا يعني استمرار اقصائها وتهميشها, بل يعني أن الوقت حان لتقديم مثل هذه النماذج عبر العصب الاعلامي.. ولابد في النهاية للجسد الاجتماعي أن يستقبل مثل هذه الرسائل أو على الأقل جزءاً منها. |
|