تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


(لكَن) الغسيل

ساخرة
الخميس 7/2/2008
معتصم دالاتي

قبل دخول الغسالات الأوتوماتيك إلى منازلنا, وأيضاً قبل غسالات الكهرباء, كانت ربات البيوت يغسلن الثياب بأيديهن. وكان يوم الغسيل يوماً مشهوداً, تتفرغ فيه الأم وبناتها وكناتها لتلك العملية.

فتسخين الماء يتم بطناجر النحاس على بابور الكاز أو موقد الحطب, فتلك موجودة في كل منزل, والثياب التي بحاجة إلى غلي يتم غليها بواسطة برميل خاص لهذه العملية, أما عملية الغسيل فكانت بواسطة طبق نحاسي مستدير يدعونه (لكَن) بتشديد الكاف كما تلفظ الجيم باللهجة المصرية.‏

في ذاك الزمن الهادىء الذي هو ما قبل منتصف القرن الماضي كان الناس يعيشون بساطة الأشياء. فلا هَمَْ لهم ولا غَمَْ, فالحياة سهلة ليس فيها الكثير من المتطلبات. ويكفي تدبير ثمن الخبز وبعض الإدام (أي ما يؤكل مع الخبز) بالإضافة إلى الحاجات القليلة, فلا فواتير ماء أو كهرباء أو هاتف, إلا بالحدود الدنيا لمن كان يمتلك في بيته بعض ذاك الترف الذي لا لزوم له. كما أن معرفة القراءة والكتابة لم تكن بالأمر الشائع. فإن وصلت رسالة إلى أحد فلربما يوجد في الحي شخص يستطيع فك طلاسم حروفها يلجؤون إليه ليؤدي تلك الخدمة.‏

قصدت أم مصطفى جارها شيخ الكتاب وقالت له: (يا جارنا أبا خليل.متعودين على إحسانك. الله يوفقك بدي ابعث مكتوب لمخدومك مصطفى) كانت تلك عبارات الأدب التي تصدر في حالة طلب خدمة من أحد.‏

تناول أبو خليل الريشة وغمسها في المحبرة وبدأ بالكتابة على الورقة ما يعادل ثلاثة أسطر من محفوظاته. تلك هي الديباجة أو المقدمة التي لا بد منها في بداية كل رسالة.‏

- نعم يا أم مصطفى. ماذا تريدين أن تقولي لمصطفى في المكتوب?‏

ذكرت أم مصطفى بعض الأشياء. ثم تابعت: اكتب يا أبا خليل لمصطفى أن يبعث لي مصاري لأشتري (لكَن) للغسيل.. وهنا أسقط في يد شيخ الكتاب. وحارفي كيفية كتابة هذا (اللكَن). فإن كتبها بالكاف فسوف تقرأ لكن. وهو حرف مشبه بالفعل من أخوات إن مهمته النصب والرفع شأنه شأن معظم مسؤولي الدول التي يطلق عليها تأدباً بالدولة النامية. وإن كتب هذا (اللكَن) اللعين بالقاف فسوق تكون الكلمة لقن, وهذا ما لا معنى له. وحسماً للأمر فقد قال لها: يا أم مصطفى. سوف أعيرك (لكَن) الغسيل الذي عندنا, وعندما يعود ابنك بالسلامة اطلبي منه أن يشتري لك بنفسه.‏

بدأت أم مصطفى بالدعاء لأبي خليل على هذه المكرمة. ثم تابعت: اكتب له أن جارنا أبا خليل الله يوفقه عارني لكَن الغسيل. وعندما ترجع من السفر في العطلة أريد أن تشتري لي (لكَناً) جديداً. لأني والله أتعب كثيراً من الغسيل بدون لكَن.. وهنا ثارت ثائرة شيخ الكتاب, وقال لها: أنا ضربت على قلبي وأعرتك لكَن الغسيل لأتخلص من كتابته. فتطلبين مني أن أكتبه لك ثلاث مرات بدل المرة الواحدة?‏

كانت المفاجأة مدهشة لأم مصطفى بأبي خليل شيخ الكتاب الذي يكتب كل شيء ,يتحاشى كتابة (اللكَن). مع أنه كثيراً ما كتب لها أشياء أكبر حجماً من اللكَن وأكثر أهمية منه, بما في ذلك الحجابات والأدعية بأنواعها. ولم تعرف أم مصطفى أن أبا العلاء المعري الذي تفاخر بأنه سيأتي بما لم يأت به الأوائل, قد أعجزه غلام صغير حين تحداه في أن يأتي بحرف واحد زيادة عن الثمانية والعشرين التي أتى بها الأوائل. فأسقط في يد أبي العلاء, كما أسقط في يد أبي خليل والسبب في ذلك هو حرف واحد في اللغة.‏

ترى ألم تكن أم مصطفى رحمها الله هي وبنات جيلها أكثر سعادة وراحة بال من نساء هذا العصر? بالرغم من أنهن- أي هؤلاء الأوائل- كن يقضين يومهن كاملاً وراء اللكَن من أجل الغسيل. أما سيدات هذه الأيام فيقمن بمعظم أعمال المنزل بكبسة زر. ومع ذلك لا يكففن عن النقيق. وهذا ينطبق علينا نحن الرجال. فنحن أيضاً لا نكف عن الشكوى والتذمر. ترى هل الخلل من الزمن, أم من أهله?‏

سبحان العليم‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية