|
ساخرة عاش بطل سيرتنا أبو الجود في كنف أبيه مرتاحاً مدللاً لا يعرف شيئاً عن تكاليف الحياة, وحينما توفي والده وجد نفسه جالساً على الأرض يا حكم, وسرعان ما رمى نفسه في سوق العمل مستفيداً من المثل الشعبي القائل (إذا ضاقت بك الأحوال عليك بابن الدّلال). عمل في مديرية البريد مراسلاً وفارز رسائل, وفي التموين بصفة عنصر دورية قمع مخالفات, وفي المسلخ بصفة عداد ذبائح, ثم استقر في مؤسسة المياه بوظيفة جابي إيصالات. وكان يسمى كل واحد من دائنيه (الكباس)! سألته ذات مرة: ماذا تعني بكلمة كباس? فشرح لي أن رجال الشرطة حينما يذهبون في الليل لمداهمة منزل أحد المطلوبين الخطيرين, يتسللون إلى بيته ليلاً, ويتوزعون في الزوايا وعلى الأسطحة, ثم (يكبسون) على المنزل كبسة واحدة, فإذا كان المجرم موجوداً أحاقوا به وما عاد يستطيع إلى الفرار سبيلاً. وأضاف يقول: ولأن الكباسين يعلمون أني أتهرب من مواجهتهم, فقد شرعوا يكبسون عليّ في أوقات مفاجئة, وأحياناً يرسلون طفلاً يقرع الباب, وهم يختبئون في الزوايا, فإذا شعرت بالأمان وفتحت الباب سرعان ما يضربون حولي حلقة ويباشرون فيّ لوماً وتقريعاً, فأضطر إلى إرسال يدي في جيبي, وأخرج منه بقايا النقود الهزيلة المتبقية فيه, وأوزعها عليهم كلاً بحسب مبلغ دينه, وأطلب منه الرضوخ للأمر الواقع بحسب المبدأ التفاوضي القائل (خذ وطالب). قلت: ولكن لنفرض أنك لم تجد في جيبك شروى نقير? قال: في هذه الحالة أمنحهم- عن طيب خارط- فرصة لتقريعي وتوبيخي, وهم بذلك يحققون متعة عالية على ما أظن, وبالأخص الكباس (أبو عبدو السلموني). قلت: كيف? قال: كان له في ذمتي مئة ليرة سورية, وكان كلما التقاني, أو ضبطني في كبسة مبيتة, يسحب لي سحبة توبيخ يعجز صباح فخري (المسجل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية) عن الإتيان بمثلها. قلت: ما أطوال بالك! وهل كنت تحتمل هذا كله? قال: أقسم بشرفي على أنني لم أكن أحتمل, حتى إنني عقدت اجتماعاً عائلياً مع السيدات اللواتي يلذن بي وعرضت عليهن المشكلة بحذافيرها. وقد أثار هذا الأمر حمية عمتي نورا, فأخرجت اسوارة الذهب التي تحتفظ بها ذكرى من زوجها المرحوم, وطلبت مني أن أبيعها وأسدد ثمنها للكباس السلموني. قلت: والله إنه حل نبيل. قال: ولكن السلموني لم يقبل. قلت مندهشاً: لماذا? قال: تصور, لقد ذهبت إليه وقدمت له المئة ليرة فقال لي: إنني أوبخك وأقرعك لأنك مدين لي بهذا المبلغ, فإذا دفعته لي بأي حق أفعل ذلك? قلت: يا لها من حكاية عجيبة, ولكن كيف حللت مشكلتك مع الكباسين? قال: أصبحت صاحب خبرة لا يستهان بها في هذا الخصوص, ومع أني لا أحب إسداء النصائح للآخرين فسوف أخرق القاعدة هذه المرة وأزودك بنصائحي: أولاً- إذا كنت مديناً, إياك ودخول البيوت من أبوابها, فالكباس الذكي غالباً ما ينصب كمائنه عند عدوة الباب. ادخل من النوافذ, أو انزل إلى باحة الدار بالهليوكبتر إذا أمكنك ذلك! ثانياً- إياك والتعامل مع الكباس المتحرك. فالثابت أفضل. قلت: لم أفهم . قال: الكباس الثابت هوالبنك, فإذا حصرت ديونك كلها فيه تستطيع أن تخرج من البيت متى تشاء وتتجول في الأسواق مرحاً مصعراً خدك للناس, ولا يستطيع أحد أن يقول لك (ما أحلى الكحل في عينك). قلت: ولكنك إذا قصرت مع البنك في الدفع فإن أقل ما يفعله هو الحجز على بيتك. قال: إنني محتاط لهذا الأمر جيداً. فلقد ورثت عن المرحوم أبي هذا المنزل وهؤلاء السيدات المصابات بمرض الربو, فإذا أراد البنك أن يحجز فليحجز على الإرث كله, قصدي أن يحجز على الدار ومن فيها, والله يسامحه دنيا آخرة! |
|