تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


درب الحقيقــة

ثقافة
الخميس 22-4-2010م
محمود شيخ عيسى

كثيراً ما وجّهتْ إلى الشعر العربيّ تهمة قاسية بحقّه، تقول هذه التهمة إنّ الشعر العربيّ طفل مترف عاش في كنف القصور الفارهة وعطاءات الملوك والخلفاء،

جلده ناعم يصاب بخدوش كبيرة إذا حاول العبث بالرمال الموجودة في الشارع، وإذا أصرّ على العبث بها فيجب أن تكون أنعم من رمال البحر، صافية كصفاء شمسه المبكار.‏

هذه التهمة تصوّر الشعر العربيّ على أنه يعيش في برجه العاجيّ يطلب من الآخرين الصعود إليه ولا يرضى بالنزول إليهم لتفقّدهم والتعرّف على أحوالهم.‏

على هذه التهمة يردّ الشاعر الكبير نزار قباني في سياق قصيدة عصماء ألقاها في مهرجان الشعر التاسع الذي أقامته عاصمة الرشيد بغداد عام 1969، وقد صفّق الجمهور طويلاً لأبيات نزار التي أوضح فيها دور الشعر في حياتنا العامة والثقافية:‏

نرفض الشعر مســـــــرحاً ملكياً من كراسيه يحرم البســــــطاءُ‏

نرفض الشـــعرَ أن يكون حصاناً يمتطيه الطغاةُ والأقـــــــــوياءُ‏

شعرنا اليومَ يحفرُ الشمس حفراً بيديه فكلّ شـــــــــــيءٍ مضاءُ‏

شـــعرنا اليومَ هجمةٌ واكتشافٌ لا خطـــــــــــوطٌ كوفيّةٌ وحِداءُ‏

ثمّ تساءل الشاعر:‏

يُصلب الأنبياءُ مـــن أجل رأيٍ فلماذا لا يصلبُ الشـــــــــعراءُ ؟‏

وقبل ذلك قال دعبل بن علي الخزاعيّ قولته الشهيرة:: (( إنني أحمل خشبتي منذ أربعين عاماً ولا أجد من يصلبني عليها)).‏

إنّ هذه الأبيات وقول دعبل، كلّ ذلك يؤكّد أنّ الشاعر كان ينوي على الدوام إرسال رسالة لإحداث التغيير المنشود في وظيفة الشعر والشعراء، وبالتالي إحداث تغيير شامل في البنية الفكرية والاجتماعية للمجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، وقد تلقّف الشعراء والمفكّرون على حدّ سواءٍ هذه الرسالة مؤمنين بكلّ كلمة جاءت فيها، وعملوا على ترجمتها واقعاً حيّاً بتنا نشاهده كلّ يوم، فالشاعر والمفكّر والمثقّف أصبح اليوم مقاتلاً حقيقيًاً سلاحه الكلمة المجلجلة التي يستبسل في الدفاع عنها حتّى لو كانت حياته ثمناً لذلك الدفاع، وصار الحديث عن الكلمة الرصاصة بل الكلمة التي تفعل ما لا تستطيع الرصاصة فعله أمراً نلمسه لمس اليقين، ويشاء القدر أن تكون بغداد عاصمة لؤلؤة الرافدين هي الميدان الذي أصبحت فيه الكلمة رصاصة تسدّد إلى المحتلّ الغاصب، ويصبح الشاعر والمثقف و الصحفيّ شاعراً ومقاتلاً ومناجزاً بالكلمة الرصاصة يغير بها وجه الشعر والتاريخ. ‏

لقد أصبحت المخاطر الحقيقية التي يتعرّض لها المفكّرون- والشعراء طليعة فاعلة فيهم_وهم يؤدّون دورهم النبيل الذي نذروا أنفسهم للقيام به واقعاً لا يمكن غض الطرف عنه، لذلك كان من الطبيعيّ أن ترتفع الأصوات مطالبة بتأمين الحماية لهم، وقد قال القانون الدوليّ الإنسانيّ كلمته في ذلك، وكلّ ما نتمنّاه أن تلقى تلك الكلمة آذاناً صاغية من قبل أولئك الذين يجدون في نار النزاعات المسلّحة الوسيلة الوحيدة للتخاطب، وهي في الأحوال كلّها لغة تعود على الناس بالدمار والويلات.‏

وللتذكير فإنّ القانون الدوليّ الإنسانيّ هو مجموعة من القواعد الرامية إلى الحدّ من آثار النزاعات المسلّحة لدوافع إنسانية.‏

ويحمي هذا القانون الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال أو كفوا عن المشاركة فيه، كما أنه يقيّد حقّ اختيار الوسائل والأساليب المستعملة في الحرب. والقانون الدوليّ الإنسانيّ يسمّى أيضاً (( قانون الحرب)) أو (( قانون النزاعات المسلّحة))،وهو فرع من فروع القانون الدوليّ العام وهو مجموعة القواعد التي تهيمن على الدول من حيث وضعها الدوليّ ومن حيث علاقاتها مع دولة أخرى أو جماعة دوليّة في سبيل تحقيق الخير المشترك.‏

الشاعر والمفكّر والمثقّف يدفعون ضريبة فادحة دفاعاً عن الحقيقة وهم بهذا المصير راضون، لأنهم اختاروا الدفاع عن الكلمة الحقّ وإيقادها شمساً تضيء درب الحقيقة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية