|
ثقافة على بعض منشورات وزارة الثقافة - الهيئة العامة السورية للكتاب التي تتخذ من بعض أشكال التعبير الشفوي موضوعاً لها فانتقد قيام هيئة حكومية بإصدار هذا النوع من الكتب لأنه يعتبر أن الاهتمام بالعامية يساعد بعض القوى المعادية على اختراقنا ثقافياً. كذلك يعتقد الدكتور ممدوح خسارة عضو مجمع اللغة العربية أن تدوين اللهجة المحكية سوف يحولها إلى لغة مستقلة، ويرى ثالث، الأستاذ علي قاسم، أن «المحكية جاءت لتعيش حيث هي وأي نقل لها خارجه قد يزرع فيه وفيها الكثير من الاعتلالات». لست هنا في معرض مناقشة الأفكار، التي طرحها أساتذة أصدقاء أجلهم وأحترمهم، على الصعيد العلمي الأكاديمي، فهذا يحتاج إلى بحوث ودراسات مطولة، وإنما أريد إيضاح ما يتعلق بالهيئة من النقاط الواردة في المقالات المشار إليها. عام 2004 أصدر السيد رئيس الجمهورية المرسوم التشريعي رقم 65 الذي تنص مادته الأولى على ما يلي: (توافق حكومة الجمهورية العربية السورية على الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحماية التراث الثقافي اللامادي العالمي المؤرخة في 17 تشرين الأول 2003 وفق وثيقة باريس التي اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثانية والثلاثين). وضمن تعريف هذه الاتفاقية الدولية للتراث الثقافي اللامادي الذي ينبغي حمايته يندرج البند التالي: (التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي). بهذا المعنى فإن التراث الثقافي اللامادي يشمل كافة أنواع التعبير الشفهي من حكم وأمثال وأغان وأقوال سائرة وزغاريد وتناويح ونكات وحكايات وكنايات وغير ذلك، إضافة إلى الأوعية اللغوية التي تحملها، من لهجات محلية وغيرها. فور صدور المرسوم التشريعي المشار إليه آنفاً تم وضع آليات معينة وتأسيس مديرية جديدة في وزارة الثقافة هي مديرية التراث الشعبي، من أجل تنفيذ مضمونه، وقد شكلت في كافة المحافظات لجان خاصة تضم أبرز خبراء التراث الشعبي، من أجل جمع وتوثيق كل ما يتعلق بالمحافظة من مكونات هذا التراث، وتم ربط هذه اللجان بلجنة عليا تتولى تنسيق الجهود على الصعيد الوطني. الهيئة العامة السورية للكتاب على صلة وثيقة بهذه النشاطات، وهي تتولى نشر ثمار هذه الجهود كلها. والكتب التي صدرت حتى الآن لا يمكن النظر إليها، من الناحية المؤسساتية على الأقل، إلا على أنها تطبيق لسياسة الدولة وتنفيذ لتوجهاتها، وليس نوعاً من «الغفلة الثقافية» كما يحاول أن يصورها السادة الباحثون. بعيداً عن المرسوم 65 واتفاقية اليونسكو، وإذا أردنا أن ننظر إلى الموضوع من زاوية أوسع فإننا نرى أن أي لغة تحمل في طياتها مستويات عدة: مستوى أدبياً عالياً ومستوى أدبياً جرائدياً وثالثاً أدبياً إدارياً ومستوى لغة الشارع والسوق، ومستوى مهنياً يضم كلمات ومعاني وتعابير خاصة بهذه الحرفة أو تلك، وغير ذلك، هذه المستويات كلها وبمجموعها هي ما يشكل اللغة القومية الأم لأي شعب، واللغة العربية لا تختلف في شيء عن هذا المبدأ العام، ولكن أعتقد أننا نختلف عن بقية اللغات بشيء واحد وهو أن لدينا عدداً كبيراً من الأشخاص الذين ينظرون إلى أحد مستويات هذه اللغة، أي اللهجة المحكية، على أنه عار ينبغي التخلص منه وسبة يجب ردها، إنهم يطلبون عدم توثيق هذه اللهجة وما يتفرع عنها من أساليب تعبير، وعدم تدوينها، وعدم تأليف الكتب والدراسات والمعاجم المكرسة لها، هم لا يستطيعون إنكار وجود هذه اللهجة، ولكنهم يطلبون عدم الاعتراف بهذا الوجود. وبرأيي أن هذا الموقف لا يعكس غيرة على الفصحى، بقدر ما يعكس موقفاً معادياً للعلم والمعرفة، لأن دراسة الشيء، من حيث المبدأ، لا تعني تبنيه حقوقياً وأخلاقياً، وإنما تعني تحليله بغية فهمه، ثمة خوف وسواسي مرضي يمنعنا من التمييز بين بعض المحاولات المشبوهة التي برزت فيما مضى لإحلال العامية محل الفصحى، وبين الاهتمام بالعامية كمستوى من مستويات لغتنا العربية الأم، يحتضن التراث الشعبي وفنونه الكلامية. يتحدث ديب علي حسن عن أحد الكتب التي ينتقدنا على إصدارها (موسوعة العامية السورية) مستخفاً بجهد الباحث الذي أنجزها، ويورد شاهداً من الموسوعة يعرض للمنهج الذي اختطه الباحث: يضم هذا المعجم الكلمات العامية الدارجة في سورية (وخاصة في منطقة الساحل من الجمهورية العربية السورية) مثبتاً لفظها ومبيناً معناها أو دلالتها في أذهان العامة ومحققاً أصلها ومن أين أتت وهل هي تحريف أم تصحيف للفظة عربية فصيحة أم إنها من لغة سامية كالسريانية أو غيرها؟ أم إنها من السامي المشترك؟ أم إنها دخيلة أعجمية؟ ترى ما وجه الضرر في إصدار كتاب هذه هي بغيته؟ ويورد شاهداً آخر من الكتاب الثاني الذي يستنكر إصداره أيضاً (معجم الألفاظ والتعابير المحكية في محافظة السويداء) إذ يقول: فإن المعجم يحاول أن يكون جامعاً لضروب التعبير الشفوي المتداول على ألسنة العامة في محافظة السويداء متضمناً أبرز ما في خطابهم اليومي من ألفاظ ومصطلحات وتعابير وكنايات وأقوال سائرة، مرة أخرى نتساءل أين وجه الخطأ في هذا الكلام وهذا التوجه؟ إن هذا الموقف الرافض لتوثيق الإبداعات المحكية موقف مؤذ ليس للثقافة العربية فحسب، لكونه يلقي إلى النسيان بكنوز الإبداع الشعبي، وإنما هو مؤذ أيضاً للغة العربية نفسها لأنه يضعها على طرفي نقيض مع مستوى مهم من مستوياتها، مستوى يحمل كل ما أبدعته مخيلة الشعب من فنون كلامية شفهية، ويشعل بينهما حرباً زائفة لا رابح فيها وإنما الخاسر الوحيد هو اللغة نفسها. شخصياً أرى، أن اللهجات العامية، بفضل تطور وسائل الاتصال وبرامج التعليم، تقترب من بعضها بعضاً وتتلاشى الشق الفاصل بينها، كما يتلاشى تدريجياً الشق الفاصل بين المحكية ككل والفصحى، لهذا فإن ما يتعرض لخطر الاندثار ليست منتجات الأدب الفصيح (امرؤ القيس والمتنبي والمعري لا خوف عليهم، فقد نجحوا في اختبار الزمن وهم باقون)، وإنما منتجات التعبير الشفهي الشعبي: الأمثال والأغاني والحكايات والزغاريد.. إلخ، لهذا كان من الضروري توثيقها كي لا تضيع. لقد كانت الهيئة العامة السورية للكتاب، ومن قبلها مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة، وستظل سباقة لنشر كل ما من شأنه تمكين اللغة العربية وإضاءة قضاياها المختلفة، وإن اهتمامها بتوثيق التراث الشعبي ونشره ليس بدعة جديدة، وليس خروجاً عن هذا الخط، وإنما هو تطوير له وإغناء لتوجهاته، وهو، برأيي، الأسلوب الأمثل لخدمة ثقافتنا العربية ولغتنا الأم التي بها نفخر ونعتز. *المدير العام للهيئة العامة السورية للكتاب |
|