تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حماية الإرث المادي من جشع مغول القرن الواحد والعشرين

ملحق ثقافي
2012/10/23
إياد غانم :يعد علم التاريخ العلم الموسوعي الشمولي الوحيد الذي يحيط بمختلف جوانب الإنسان الفكرية والمادية,

فهو أشبه بذلك الوعاء الذي يحفظ سجل النشاط الإنساني عبر مسيرته الحضارية مستنداً إلى أرضية جغرافية وحوامل زمنية لأي حدث تاريخي, وعليه فأن أي تزوير عفوي أو مقصود لتاريخ شعب ما سي‏

ؤدي إلى إضاعة ملامحه الشخصية، ما يدفعه إلى الاغتراب عن صورته الحضارية, ومن هنا فقد باتت جميع الدول المتقدمة في العالم تنظر إلى تاريخها الشخصي على أنه جزء من أمنها القومي, تستبين خطوطه, وملامحه ضمن حقيقة تواصله وتتصدى لكل من يحاول أن يعبث أو يغير فيه بل أيضاً تعمل على تحميله أدواراً تربوية وتعليمية في سياق مناعتها الوطنية لتجعل من خلاله أفراد الوحدة جسماً واحداً له ماض وحاضر ويحمل تطلعات مستقبلية واحدة, فسنت القوانين ونظمت التشريعات التي تكفل حماية مخزونها الثقافي وإرثها الحضاري.‏

ولقد نص دستور الجمهورية العربية السورية الصادر عام 2012 ضمن المادة الثانية والثلاثون «تحمي الدولة الآثار والأماكن الأثرية والتراثية والأشياء ذات القيمة الفنية والتاريخية والثقافية»، كما بين المرسوم التشريعي 222 الصادر بتاريخ 1999/2/28م والمتعلق بقانون الآثار في فصله الخامس نوعية العقوبات المتعلقة بتجارة الآثار والاعتداء على الأماكن والممتلكات التاريخية, كما انضمت سوريا إلى المنظمات الدولية التي تعنى بالتراث الإنساني والحضاري كمنظمة اليونسكو التي تبنت عدداً من القرارات التي تتعلق بحماية المدن التاريخية وصيانة وترميم الممتلكات الثقافية فضلاً عن المبادئ الدولية الواجب تطبيقها على الحفريات الأثرية.‏

وإذا حددنا الأضرار التي تتعرض لها المباني الأثرية فهي على نوعين:‏

الأول: أضرار طبيعية ويقصد بها الزلازل والبراكين والعوامل الجوية من أمطار ورياح وفيضانات وصواعق، والثاني الأضرار التي يلحقها الإنسان من هدم وتخريب بهدف السرقة والاتجار بها وعن طريق التخريب المنظم الناجم عن حركة النمو والتوسع العمراني وليبقى على رأس هذه الأخطار الحروب؛ حيث تؤدي الصراعات السياسية, العرقية, الطائفية مع تطور أسلحة الدمار إلى ضياع ثروات وكنوز العديد من المتاحف القديمة, ولعل خير شاهد على مدى خطر هذه الحروب على التراث والحضارة الإنسانية, ما حدث في العراق من تدمير ونهب لحضارة الرافدين وما حصل في أفغانستان مع تمثالي بوذا.‏

إن أعظم الأخطار التي تصيب التاريخ هي عمليات التزوير، فلقد اهتم المستشرقون والرحالة والمكتشفون الأوربيون الأوائل في منطقتنا العربية بالبحث والتنقيب عن أثارنا والكشف عنها لدراسة تاريخنا في عصوره المختلفة, متحملين بذلك مضايقات المناخ ووعورة الصحراء, فقرأوا وفسروا ما تكشف لهم من طبقات التاريخ عبر عصوره المختلفة بالطرق التي عالجوا بها تاريخهم وآثارهم بل إن بعضهم كان يعمل والمجراف بيد والكتاب المقدس باليد الأخرى مثلما حصل أثناء اكتشاف نصوص مدينة إيبلا إذا أريد ورود أسماء توراتية فيها مثل اسم عابر من نسل سام أو ورود اسم يهوه في أسماء الإعلام الإيبلائية أو أسماء جغرافية مثل سدوم وعمورة. أو مثلما حصل بالنسبة إلى تل القاضي في الجولان السوري المحتل منذ عامين، حين حاولت إسرائيل تسجيله على لائحة التراث العالمي تحت تسمية تل دان وذلك استناداً إلى رواية توارتية تتعلق بحديث مزعوم عن غزو قام به بنو إسرائيل للمدينة فأطلقوا عليها اسم دان الابن التاسع ليعقوب دون الاستناد إلى معطيات تاريخية. ولعل وجه الخطورة في هذه الأعمال تكمن في أنه يقوم بها أشخاص غير مختصين، كما أنها تتم لأغراض سياسية, وهنا لا تكمن خطورته باعتمادهم فقط على تزييف قطع أثرية مادية وإنما تذهب إلى تحريف حقائق علمية يصعب لغير المختصين اكتشافه ما لم يكن هناك بحوث علمية جادة ونزيهة.‏

ولعل أشد ما يؤسف في هذه الأعمال أنها تتم أمام أعيننا فنحن لا نرى في تلك الاكتشافات الأثرية الهائلة إلا بقايا لأمم سادت ثم بادت, بل حتى موقفنا تجاه أثارنا لا يكاد يتجاوز التجاهل وعدم الكشف عنها والاعتناء بها أو في عدم اهتمامنا لما هو موجود منه على سطح الأرض حتى في أيامنا هذه التي انتشرت فيها الجامعات والمدارس.‏

سوريا التي هي مهد الحضارات والتي أعطت للبشرية جمعاء سمات وجودها, والتي يفتخر بأنها المتحف الطبيعي الذي يحمل في طيات جنباته آثاراً تعود إلى فترات زمنية مختلفة, لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن إحباط محاولات لتهريب الآثار أو تدمير قلاع تاريخية وعمليات منظمة لنهب المتاحف والمقتنيات الأثرية يقوم بها تتار ومغول القرن الواحد والعشرون, وهنا سأستشهد بما قاله باولو ماتييه «إن لكل إنسان متمدن في هذا العالم وطنان: الوطن الذي يعيش فيه وسوريا».‏

وبما قاله ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة: «لقد انقضى منذ بداية التاريخ المكتوب حتى الآن ما لا يقل عن ستة آلاف عام, وفي خلال نصف العهد كان الشرق الأدنى مركز الشؤون البشرية التي وصل إلينا علمها, وإذا ذكرنا هذا اللفظ المبهم في هذا الكتاب فإننا نقصد به جميع بلاد أسيا الجنوبية الغربية الممتدة من جنوب روسيا والبحر الأسود وغرب الهند وأفغانستان..على هذا المسرح غير الدقيق بالتحديد, الآهل بالسكان وبالثقافات نشأت الزراعة والتجارة والخيل المستأنسة والمركبات, وسكت النقود وكتبت خطوات الاعتماد ونشأت الحرف والصناعات والشرائع والحكومات, وعلوم الرياضيات والطب, وطرق صرف المياه, والهندسة والفلك والتقويم والساعات, وصورت دوائر الأبراج وعرفت الحروف الهجائية والكتابة, واختراع الورق والحبر وألفت الكتب, وشيدت المكتبات والمدارس, ونشأت الآداب والموسيقى والنحت وهندسة البناء, وصنع الخزف المطلي والمصقول والأثاث الدقيق الجميل, ونشأت عقيدة التوحيد ووحدة الزواج... عرفت هذه الأشياء واستمدت منها أوروبا وأمريكا ثقافتهما على مدى القرون عن طريق كريت واليونان والرومان..».‏

لنسأل أهكذا يرد الدين لمن أعطت للبشرية مفاتيح الأرض والسماء؟‏

إياد غانم: خريج قسم الآثار جامعة دمشق. شارك في الكثير من ورشات التنقيب.. وله عدة مقالات في جرائد عربية‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية