تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حبل الثقافة السُّري

ملحق ثقافي
2012/10/23
د.محمد ياسر شرف

حملت بقايا الأمم السالفة غير قليل من حيواتها الثقافية في طوايا اللقى والآثار التي اكتشفتها شعوب وتجمّعات سكانية كثيرة على مرّ السنين وفي الحقب التاريخية المتطاولة،

حتى أقبلت الجامعات والمؤسسات الرسمية ومراكز البحوث، وبعض الجهات التجارية أحياناً، على تنظيم بعثات متخصصة للكشف عن الأوابد في تاريخ الشعوب والأمم لأسباب كثيرة مختلفة حتى درجة التناقض.‏

وتشير النظرة الثقافية المتكاملة للمحصول الآثاري العربي، وخاصة ما تمّ اكتشافه في الأراضي السورية، إلى وجود حركة ناشطة في مناطق جغرافية كثيرة، لم تقف بقاياها التي وصلتنا عند حدود تشكيل صورة عن الأزمنة الماضية للأسلاف، بل تجاوزت ذلك إلى المحافظة على «الخيط السُّري» الذي يربط المعطيات الثقافية الراهنة بغير قليل من «الرحم الجمعية» التي حملت ذلك التراث.‏

فقد ساهمت محتويات المكتبات الطينية والمسلاّت التأريخية وأعمال النحت والرسم وصناعة الأدوات، التي تمّ اكتشافها في أنحاء كثيرة من الأراضي السورية، في وضع مخطط تقريبي يشير إلى أنّ آباءنا كانت لهم «ثقافة راقية» قبل أكثر من «خمسة وستين قرناً» من الآن، حينما كانت المدن «السومرية» القديمة تحفل بالحياة النابضة على غير صعيد الاقتصاد والسياسة والحرب، وكانت البؤر الحضارة في كل من «أريدو، أور، أروك، لارسا، لكش، نيبور» تشعّ بما عدّه الأركيولوجيون «ثقافة ذات هوية مرموقة» على المستويين الفكري والعملي.‏

ويحكي بعض السجلات المكوّنة من الألواح الطينية التي يصل تاريخها إلى الألف السادس قبل الميلاد عن التطور الثقافي، في مدن متجاورة وبلدان محاذية، وعلاقات مع الشعوب والحضارات الأخرى، وعن صلات وثيقة مع السكان الآخرين، على امتداد الحدود وطرق القوافل التجارية في أطراف جزيرة العرب الأربعة، حيث قصدها الهنود والأحباش من الجنوب، والفرس والآراميون والمصريون من الشمال.‏

وقد ذهب «دو مورجان» في ما نشره عن بقايا منتجات الحضارة السورية اللافتة إلى تأكيد وجود أشكال هندسية وزخرفات أنيقة وصور جميلة تمثل الحيوان والنبات، وتعدّ من «أجمل ما صنعه الإنسان في عهود التاريخ كله». كما أشار الأركيولوجي «مورت» إلى أنّ النظام الاقتصادي الذي اعتمده السكان في هذا الصقع القديم لقضاء شؤون حياتهم اليومية ينمّ عن «رتبة عالية في التفكير» وقد ترك تأثيراً مهماً في تطوير التبادل التجاري، علاوة على إنتاج الأرزاق والمواد الغذائية المتمثلة في المحاصيل الزراعية.‏

وتنطق البقايا الآثارية المكتشفة بما استطاع عرب تدمر وأنباط البتراء ولخميو الحيرة أو المناذرة وغساسنة بصرى من إنجازه في مجالات الأدب، نثراً وشعراً. وتحكي عن رعاية الشعراء والمربّين والعلماء والإخباريين، وما كتبوه من قصص عن بداية الخليقة، والطوفان المروّع الذي غمر جنّة فريدة وخرّبها. كما تتحدث عن صناعة آلات من الحديد واستحصال البرونز، ووجود «عقود مكتوبة» يشهد عليها «شهود» موصوفون، وعن نظام «ائتمان» تُقرض بمقتضاه البضائع والذهب والفضة، وتؤدى عنها «فوائد» عينية سنوياً.‏

وكم نحن بحاجة اليوم إلى ضمّ تلك الآثار في بوتقة دراسية شاملة، تأخذ على عاتقها أن تتجاوز رتبة العرض التاريخي، حسب المراحل الزمنية المتتابعة، إلى استنتاج المواقف والرؤى النظرية التي كان المفكرون والقادة والمصلحون، حتى الأفراد النافذون، يعملون على إشاعتها ونشرها وإقامة بنيان الدولة العام على أسس منها.‏

وكم نحن محتاجون اليوم لمعرفة الأهداف السامية والأغراض العملية التي واكبت بناء مجتمعاتنا الحضارية في أثنائها الثقافية المتداخلة، وكيف تماسكت أمام هجمات الأعداء والتهديدات العسكرية ومطامع الاستيلاء والاحتلال والهيمنة، التي تشير صوى الأرصاد التاريخية العامة إلى وجودها في مناطق العالم المختلفة، وكأنها لازمة للحضارة ولاحقة بازدهار الثقافة، اعتماداً على ما تثيره حالات الوفرة والغنى والهناءة من تفكير الأغيار بالاستيلاء على الخيرات والأرزاق والاستفادة من جهود الآخرين في الحصول على مكاسب وغنائم باستخدام القوة الغاشمة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية