|
ثقافة أن تبني عمارةً قصصية كاملة ومكتملة بألق الصياغة السحرية، إذ بفكرة أو حالة شخصية - قد تبدو بسيطة وعادية للغاية - يشك المرء أنها تتوفر فيها عناصر أو بواعث لتُشكل حكايةً أو قصة. وإذ بقصة مكتملة: لغة قصصية هادئة تمشي على التخوم بين لغة يومية تقترب من هسيس الشعر ونسائمه، والخالية من الترهل اللفظي والتقريرية، ثم سرد يتناسل حكايا وصولاً لنهاية مفتوحة على أبواب التأويل.
إذاً لم تُخطئ علياء الداية في عنونة المجموعة بـ «شهرزاد الكواكب» وذلك حين أخذت القصص صوب الحكايا، ما يعني فتح الفضاءات واسعة باتجاه التحليق في عوالم سحرية خالصة، تلك التي تُفضي بمتعة هائلة، وهي - المتعة - أكثر ما اشتغلت عليه الداية في قصصها، أو في معظم قصصها، والبالغة خمس عشرة قصة، و رغم أنّ اللغة التي جاءت بجملً قصيرة شديدة الانفعال، مع تسارع الأفكار والتخيلات، ومنح النص كامل الحيوية والحركة، غير أنها كانت من النوع الناعس والهادئ تُشبه الحكايات التي تُروى للأطفال ما قبل نومهم. الحكاية من خصوصيتها إضافة للمتعة، تقديم المعلومة، وأحياناً اللغز الساحر، والحكمة، والعظة، و ذلك ما توفر في قصص الداية، أو بالأحرى في حكاياتها، ومن هنا نفهم سر هذه اللغة الشهرزادية أي متعة الحكي بهذا الاتشاح بثوب من الابتسامة كما في قصة « لص الساعة الرابعة». ولأن الغاية في السرد هنا، هي الحكاية لذلك تجمع علياء الداية عوالم متعددة في قصصها، عوالم سحرية لكنها المشدودة بحبال الواقع، عوالم ترويها دون فواصل، وإنما متماهية، أو ربما هو الواقع الذي تجري فيه الحوادث والأحداث بطريقة خيالية، أو قل أغرب من الخيال نفسه.. قصة «محل التحف والمصباح السحري» مثال جيد لهذه الحالات. نادراً ما تقتصر قصة الداية على حكايةٍ واحدة، وإنما تترك أبواب إدراج الذاكرة مفتوحة لعوالم التداعي، حيث الحكاية التي تتناسل، الأمر الذي يُغني القصة الأساسية بفيض من سيول الأحداث.. حكايا صغيرة تدعم كلها الحكاية الأساس، إنها غواية الأشياء البعيدة اللمّاعة تحت الماء، تلك التي تخلق معنى للحياة، وبدونها ستغدو حياتنا أشبه باليقين الذي تحملته مجموعة الحصى التافهة. هنا تبدو الذاكرة طفلاً عابثاً، يُنبش الأشياء، فتنكشف تفاصيلها ملونة تغني تلك الذكريات البعيدة. وليأتي ليس السرد، وإنما النثر في نظامه الأجمل، كسجل لأروع الدقائق في أسعد العقول. من هنا لا تحاول علياء الداية في قصصها القبض على غموض الأشياء، ولكن لا تذهب باتجاه التغميض، وأنما تترك الأشياء المتلألئة أن تُغرينا من بعيد، ذلك أنها تتفقد كامل غوايتها إذا ما اقتربنا منها أكثر.. قصة «الوجه الأصفر في الفيسبوك». في قصصها تبدو علياء الداية ذلك الكاتب الذي يبدأ حين ينتهي الإنسان - كما يذكر في هذا المجال خوسيه اورتيغا إي سات - فقدر الإنسان هو أن يعيش رحلته الإنسانية، بينما مهمة المبدع، فهو يزيد على العالم، يضيف إلى الأشياء الحقيقية الموجودة في مكان ما، قارة خيالية غير حقيقية. من هنا فإنّ الداية تجعل من تلك التفاصيل غير المرئية مرئية تماماً لكن بالصيغة الجمالية الأبهى. أي تحويل العادي بكيمياء جديدة إلى حالة إبداعية. علياء في قصصها - شهرزاد الكواكب - تبدو ملتزمة بفن القصة الكلاسيكي، و الذي هو فن متنوع الأشكال، يسمح بالحديث عن نماذج وخصائص عامة شائقة قابلة للتطور، وليس عن نماذج وخصائص نهائية وثابتة، الأمر الذي يُفضي إلى ظهور نوع جديد في الوقت الملائم، أي إن كلاسيكية الداية فقط من جهة الشكل، وتحديداً من ناحية الطول، ذلك أن الداية تسرد بطريقة مختلفة، وتأتي بأحداث وشخصيات مختلفة، تصنع أسطورتها الفنية التي لها وحدها، وهي بعد مجموعتها السابقة «أبو الليل» الصادرة عن دار التكوين بدمشق، تُشكل معلماً في المشهد القصصي السوري له عمارته الخاصة التي لا تشبه المتوافر في الساحة الثقافية، هذا المشهد الذي يبدو أنه اليوم يفتقد لكثير من الأقلام، وهو الذي كان شهد هبة جميلة خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، لكنها نهضة خمدت أمام سحر القصة القصيرة جداً وقصيدة الومضة، القصة القصيرة جداً التي استفادت من جمعها بين القصيدة والحكاية، فكسبت الجميل من النوعين الأدبيين معاً - القصة والقصيدة - علياء الداية بقيت من المخلصين القلائل لفن القصة القصيرة رغم شواغلها الثقافية الكثيرة في النقد والترجمة، هؤلاء الذين وجدوا ضالتهم الجمالية في القصة القصيرة، لكنها استطاعت - كما ذكرنا- من خلق أجوائها القصصية الخاصة، بتلك القصة التي تجمع بين عوالم مختلفة قديمة وحديثة، من الأرض، ومن السماء، حكاية - أسطورة مشدودة إلى يومياتنا الواقعية، الداية المولعة بعالم الأساطير، كانت أصدرت في وقت سابق كتابها النقدي «الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي» وكتابها «الوعي الجمالي في السرد القصصي» إضافةً لترجماتها القصصية عن اللغتين الفارسية والإنكليزية. |
|