تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أساور عربية

آراء
الخميس 18-10-2012
ديب علي حسن

يا بني دروبنا ليست مفروشة بالورود والرياحين، بل لم تكن ثمة دروب وطرق هي زواريب وأزقة، ومسايل ماء وانهدامات أرضية كنا نسلكها لنصل إلى حيث المدرسة والعلم والنور والمعرفة.

شدتنا الكلمات الطيبة التي زرعها في عقولنا وقلوبنا من نذروا أنفسهم ليكونوا قناديل هدى لنا.‏

يا بني: ما تراه من بناء ومال وغنى لا يعني لي شيئاً كثيراً أمام جلسة بالقرب من ذاك النبع الذي كان ذات يوم رقراقاً سلسبيلاً والآن تلوث.‏

وفاض محدثي كيف لنا أن نشعر بسحر هذا الريف الرائع وجماله وقد كاد يفقده إلى غير رجعة.‏

وأسأله: كيف ألا ترى جبالاً خضراء وغابات و.. و .. ويرد بسؤال استنكاري: وهل ترى حقول قمح متماوجة ومواسم ذرة صيفية، وأشجار فواكه أين قطعان البقر... والماعز والغنم.. أين قن الدجاج؟‏

أسألك يا بني: هل تستطيع أن تؤمن ليتر حليب في قريتكم إلا بعد أسبوع؟‏

هل تذكر كيف كان الجار يوزع مما عنده لجيرانه الذين لا يملكون أو قل ما عندهم.. الحليب اليوم لجارنا فلان، وغداً لذاك.. والكل يعيد الأمر نفسه لمن جف ضرع بقرته لسبب ما.‏

هل تذكر «التنور» وقد تحلقت النسوة حوله ومساءات الخبز الطازج تعبق في المكان أتذكر أتذكر؟!‏

وكان طوفان أسئلته وغصت في صمت مريب وكأني أتهم، لا بل أتهم المعنيين بشؤون ريفنا، أي ريف سوري أياً كان في الساحل في درعا، السويداء، حلب، إدلب الحسكة، لكني سأقف عند ريف الساحل الذي اهتم مسؤولو بلدياته بأمرين اثنين فقط، مجارير الصرف الصحي وجعله يصب فوق الينابيع، والأمر الثاني إلحاحهم في كل القرى على إصدار مخططات تنظيمية تستولي على الأرض يساندهم في ذلك مهندسون لا يملكون ضميراً، فمن يصدق أن حقل زيتون يوضع في المخطط على أنه حديقة وقطعة أرض لا يملك صاحبها غيرها تحول إلى ساحة عامة.‏

ويرسمون جسوراً وشوارع تحتاج ميزانيات سويسرا لتنفيذها، والمحصلة لا يملك ابن الريف أن يبني غرفة واحدة في قريته ويتحول إلى المدينة ليصبح رقماً في العشوائيات نسوا وتناسوا أن يشقوا الطرق الزراعية إلى الوديان والأراضي البعيدة.. نسوا أو تناسوا أن يساهموا في عودة الزراعة إلى الريف، صحيح أن نتاجها (الزراعة) ليس كبيراً، لكنه كاف للاستهلاك المحلي، كل أسرة كانت تنتج ما يكفيها من القمح والذرة والعدس وما يكفي مواشيها من شعير وعلف.‏

الريف السوري مهمل في الاستراتيجيات التنموية دائماً وأبداً أي رصيف في دمشق يغير (بلاطه) سنوياً وكأنه يستبدل ثيابه وربما لدى الجهات المعنية قدرة على تغيير «بلاط» هذه الأرصفة أكثر من قدرة بعضنا على تغيير ملابسه وقس على ذلك في مراكز المدن والمحافظات كافة.‏

ريفنا أينما كان مهمل ودفع ثمن إهماله ولا أحد ينتبه لذلك ماذا لو كان لدينا وزارة تعنى بشؤون تنمية الريف، لا نريد أوتسترادات ولا ناطحات سحاب نريد أن نكون قادرين على التجذر في أرضنا، حقولنا، أن نبني ولو غرفة تشدنا إلى حيث النضارة والحياة والعطاء...‏

ذات يوم قام رئيس الجمهورية شكري القوتلي بزيارة إلى الساحل السوري وفي لقاء جماهيري خاطبه أحد رجال العلم والمحبة والدين والتسامح الشيخ عبد اللطيف ابراهيم قائلاً:‏

هذي الجبال أساور عربية صدأت‏

وأغفلت الشآم صقالها‏

صرخته هذه لم تكن من أجل جبال طرطوس أو اللاذقية بل من أجل كل قرية سورية أينما كانت.. لا أحد ينكر ما تحقق للريف وهو كبير كبير، لكن الطموح والواقع أكبر فقط نصف ميزانية (زاروب) في محافظة ما يكفي لأن يوطن المئات بل الآلاف في قراهم.‏

أيها الاستراتيجيون ادرسوا واقع الريف أقيموا منشآت صغيرة شقوا طرقات زراعية شيدوا سدات مائية بين الوديان فالماء الذي يهدر ويذهب إلى البحر ثروة لا تقدر.. خلصوا ينابيعنا من الصرف الصحي.. قولوا لنا أين يمكن لأحدنا أن يبني غرفتين وبعضكم أقام الفلل.. أين نجد موطئ قدم وقد وضعتم مخططات تنظيمية أقل ما يقال فيها إنها وضعت بأيدي مهندسين ليس لديهم حس من ضمير، أما حان لكم أن تفعلوا شيئاً؟!‏

تداعيات شدني إليها ذاك الذي جنى ثروة طائلة من تعبه وعمله وترك أضواء باريس وضجيج نيويورك ليقول: أريد أن أكون في قبر من تراب بلادي، تحت شجرة توت في قريتي وهو الذي لو أراد لكان في قبر من ذهب خالص حيث الغربة والعجمة.‏

هل نعيد بعد سنوات الصرخة أظن ذلك؟‏

d.hasan09@gmail.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية